بعد نجاحها الكبير على المستوى الاقتصادي واستقرارها المبهر سياسياً، تتوجه الصين وبقوة هائلة باتجاه ترويج نفسها كجهة ثقافية وسياحية بامتياز. فبعد سنوات من محاولات الحزب الشيوعي الحاكم للطلاق مع ماضي الصين وتدمير كل ما له علاقة بـ«الجحيم» الذي كان يسبق «الثورة الشيوعية»، ها هو الحزب الآن يقوم بتمجيد وإبراز «إنجازات» الماضي الصيني، وإبراز أهم مزاياه. ففي خلال سنة 2018، تسعى الصين لأن تكون الدولة صاحبة العدد الأكبر في المواقع الأثرية والتراثية المعترف بها من قبل منظمة اليونيسكو التابعة لمنظمة الأمم المتحدة. فالصين تسجل أعداداً مهولة من المواقع؛ سجلت 52 موقعاً، لا تتفوق عليها إلا إيطاليا بـ53 موقعاً، لكن لدى الصين 15 موقعاً جديداً بينما لإيطاليا خمسة مواقع فقط.الصين أدركت أهمية القوة الناعمة المستمدة عبر التاريخ والحضارة والثقافة، وهذا ما عرفته دول مثل فرنسا وبريطانيا واليونان والهند وتركيا جيداً، وتمكنت من تحقيق مواقع على خريطة العالم الإنسانية بأقل التكاليف وبعوائد عظيمة انعكست على تحسين الصورة الذهنية للبلاد وتوسيع العوائد الخدمية والسياحية، وتحسين مستوى العلاقات الدولية مع الأمم والشعوب الأخرى بشكل مدهش وملحوظ وقابل للقياس.معظم دول العالم العربي لا تزال بعيدة جداً عن حسن إدارة العنصر الثقافي في قوته الناعمة، وذلك على رغم وجود الإرث الحضاري المتراكم في الكثير من المواقع الجغرافية في تلك الدول، فإنه كانت هناك محاولات لافتة ومهمة من العراق ومصر ولبنان والمغرب عبر السنوات الماضية، لكنها بقيت مجرد محاولات وغير مستدامة.لقد تعلمت الصين جيداً وأدركت أن طلاقها من الماضي لا يعني أبداً تحقيره وعدم الاستفادة منه بشكل حيوي وعقلاني. الدول التي حولت الثقافة إلى عنصر أساسي في ترسانة اقتصادها ومن أساسيات الأولويات في توجهاتها، اكتسبت الكثير من الجولات في الساحات الإعلامية والسياسية والاقتصادية بتكلفة أقل بكثير مما يسدد لشركات الدعاية والإعلان والعلاقات العامة.احترام المكون الثقافي للأمم هو إقرار بالتنوع والفسيفساء الذي يتكون منه المجتمع، وبالتالي هو رسالة حضارية من دولة مدنية وعصرية للمجتمع الدولي أنها قادرة على مواكبة الانضمام إلى المجتمع الحضاري والإنساني بلا تعقيد ومشكلات. وتستثمر دول مختلفة حول العالم العنصر الثقافي لديها بشكل جدي الآن؛ فالبرازيل وإسرائيل والمكسيك وكوريا الجنوبية واليابان، كل على حدة، تسخّر البرامج والمبادرات الجادة لاستعمال السياحة والتلفزيون والمسرح والسينما والإعلام الجديد لترويج «ثقافاتها» المختلفة لدول العالم وتقاس عندهم درجات النجاح بالعوائد الاقتصادية المحققة، والصورة الذهنية الإيجابية في مؤشرات الأمم المتحدة. أيضاً، الدول الأوروبية الشرقية كافة بعد خروجها من المعسكر الشيوعي، أول من اهتم بالقوة الناعمة الثقافية لإبراز ماضيها بعيداً عن الشيوعية، وحصدت نتاج ذلك الخير الوفير.
مشاركة :