حتى لا نكرر أخطاء الماضي

  • 8/29/2013
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

قبل عدة أيام، قادني أكاديمي يعلم طلابنا في إحدى جامعاتنا، وتولى قبلها منصبا كبيرا لتعليم طالباتنا، ويطرح نفسه شاعرا ومثقفا، لحوار عقيم وجدلية لا طائل من ورائها، كشفت لي عن مكمن خطر حقيقي يتربص بعقول أبنائنا وبناتنا، اضطررت لمجاراته لاعتبارات جيرة قديمة قبل ما يقارب أربعة عقود، حتى فاض بي الكيل، وأوقفت الحوار معه. هذا الأكاديمي لديه وجهة نظر، لم أحرمه من التعبير عنها، لقد حاول واستمات لكي يثبت لي أن الإعلام لدينا إعلام إعلاني موجه، وعبر كثيرا عن أفكار متطرفة تدعم توجهات الإخوان المسلمين في الإرهاب والقتل، وغضب لأنني طالبت على صفحتي في «الفيس بوك» بضرورة إيقاف الأئمة الذين يسيسون المنابر ويوظفونها لخدمة أحزاب أو تيارات، وينحرفون بها عن مسارها الطبيعي في تثقيف الناس دينيا واجتماعيا. وكعادة كل من يحملون هذا النمط الضيق من التفكير المسلوب والمصادر سلفا لحساب حزب أو جماعة أو تيار يلبس عباءة الدين ليعبر من خلالها إلى أهداف أخرى، والذين يمارسون الإقصائية والسباب والشتائم لإثبات حججهم الضعيفة والعاجزة عن الإقناع، بدأ صاحبنا الأكاديمي في التشكيك في الإعلام والإعلاميين والطعن في ذممهم، ولم يستثنني منهم، وبدأ في استخدام مصطلحات وتعبيرات أقل ما يقال عنها أنها وقحة تكشف عن سوء سريرته وتوجهاته الخطرة على المجتمع، والأخطر من كل هذا، إن كان هذا الأكاديمي يلقن طلابنا على قاعات الدراسة في الجامعة هذا الفكر المتطرف الرجعي، البعيد كل البعد عن الإحساس بالمواطنة والواجب الديني والوطني في الاصطفاف إلى جانب مجتمعه ووطنه في وقت شديد الحساسية، يتطلب منا أن نتلاحم ونصطف جميعا إلى جانب ما يحقق المصلحة الوطنية واستقرار وأمن الناس، إلا أنه استمر في المراوغة والمكابرة، رغم أني ذكرته بقول الإمام مالك ــ يرحمه الله: «إذا رأيت الرجل يدافع عن الحق، فيشتم ويسب ويغضب، فاعلم أنه معلول النية، لأن الحق لا يحتاج إلى هذا»، ولكن لا حياة لمن تنادي. لكن هذا الأكاديمي ومن هم على شاكلته ممن أفرزتهم تيارات ما يسمى بـ«الصحوة الإسلامية» التي بدأت مطلع سبعينيات القرن الماضي، وبلغت ذروتها نهاية الثمانينيات، وانقسمت انقسامات حادة بداية التسعينيات، والتي ثبت تاريخيا أنها (أي الصحوة) كانت تيارات سياسية حركية تتدثر بعباءة الدين كجواز عبور في مجتمع محافظ أساسا. هذه «الصحوة الإسلامية» كان يهيمن عليها تياران أساسيان هما السلفية والإخوان، شهدت فيما بعد انقسامات وتناحرات أفرزت فروعا عنهما، فالتيار السلفي ــ مثلا ــ انقسم إلى عدة تيارات خاضت صراعا فيما بينها، منها السلفية الحركية «السرورية»، والسلفية العلمية «الجامية»، و«السلفية الجهادية» التي ضمت أطياف القاعدة، وجماعات التكفير والعنف، وحركة الإخوان المسلمين. والشيء الوحيد الذي اتفقت فيه هذه التيارات مجتمعة، هو محاولاتها التي لم تهدأ حتى اليوم، في فرض وصايتها على المجتمع والتفكير بالنيابة عنه، مستغلة أنها تتحدث باسم الدين، وتصور للعامة أن هدفها ديني خالص، وأنها إنما تريد تطهير المجتمع وتربيته وتهذيب سلوكياته لحماية الناس من شرور أنفسهم، وكأنهم وكلاء الله في أرضه. هذه الحالة عايشتها وعايش معظم أبناء جيلي ذروتها في فترة الثمانينيات، عندما مارست هذه الجماعات أو التيارات حالة استقطاب كبيرة بين الشباب، وكانت التجمعات المصغرة التي تعقد في البيوت أو في المساجد بما لا يتعدى 10 أشخاص يجمعهم «أمير مجموعة» تبدأ اجتماعاتهم بحفظ آيات من القرآن الكريم، تعقبها الأحاديث النبوية، ثم موضوع يطرحه أمير المجموعة للنقاش، ثم يسمح للأعضاء بطرح مواضيع للنقاش، كانت تبدأ دينية في الغالب، وتدرجت خلال سنوات متسارعة لتتحول إلى مواضيع سياسية، تكفر بعض الحكام العرب وتطعن في عقيدة المجتمعات وسلوكياتها وأخلاقها، لتلبس أجنداتها عباءة الدين تحت شعار: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ»، وأنهم هم المكلفون بهذا التغيير، بينما الحقيقة أن لا علاقة لها بالدين، بل هي أجندات سياسية لتيارات حركية تسعى للسلطة والنفوذ من خلال اختطاف المجتمع وترهيبه وتكفيره إن لم يتبعهم ويسلم لهم بالسمع والطاعة، هذه الاجتماعات كانت تتكرر أو تستنسخ ما بين مدن المملكة في الثمانينات، حتى أن طالب الثانوية في أبها أو جازان ــ مثلا ــ كان عندما يتخرج ويسافر إلى الرياض أو جدة أو الظهران أو غيرها من المدن الكبرى لدراسة الجامعة، يذهب ومجموعته جاهزة لاستقباله والترحيب به داخل الجامعة أو خارجها. وعقب أحداث 11 سبتمبر أفرزت صراعات التيارات الإسلامية، تيارات جديدة أيضا، منها تنويريون إسلاميون كانوا خليطا من السروريين والإخوان المسلمين، ينتقدون فكر الحركة الإسلامية، والتراث الإسلامي، ولا بأس لديهم في تبني بعض المفاهيم الثقافية الحديثة، يتقاربون مع اليساريين والليبراليين في قضايا عدة، وعلى الرغم من أنهم بقوا محتفظين بهوية إسلامية تبدو معتدلة، إلا أنه لا يمكن تبرئتهم من أنهم يحملون مشروعا سياسيا يسعون لتحقيقه، متى حانت الفرصة. هذا الخليط السياسي من الجماعات الإسلامية الحركية التي ما زالت تحاول ممارسة الوصاية على المجتمع، وإن كانت تعيش تراجعا ملحوظا في حجم التأثير بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، وبعد النجاح الباهر لوزارة الداخلية في تقليم أظافر تنظيم القاعدة في المملكة بعد سلسلة من الأعمال الإرهابية ذات الأضرار المحدودة، انتهت في الغالب بمقتل منفذيها والقبض على خيوطها وقتل قادة التنظيم في مواجهات أمنية حاسمة، الأمر الذي انعكس على تحركات هذه الجماعات وعودتها إلى ممارسة العمل السري، أو «تقية من نوع خاص»، بعد أن استوعبوا الدرس جيدا وعلموا أنهم لا مجال لهم لممارسة دور حركي واضح في ظل دولة نجحت في فرض قوتها وهيبتها عليهم بتكاتف المجتمع مع القيادة بصورة باهرة أذهلت العالم، إلا أنهم وبعد الفشل الذريع الذي تكبده تنظيم الإخوان المسلمين في مصر خلال عام من حكمهم، كشف للشعوب الإسلامية والعربية فشل أي مشروع سياسي لهذه الجماعات المتطرفة، وإن استماتت في بيان اعتدالها وسلميتها. سقوط الإخوان المسلمين في مصر لم ينعكس على الإخوان وحدهم، بل على كل جماعات الإسلام السياسي، وبالتالي فهم يحاولون الآن استجماع قواهم لتعويض ما أفقدهم إياه عام من حكم الإخوان، أضاع برعونة «كان سيمارسها أي تيار إسلامي آخر لو وصل إلى سدة الحكم في أي بلد عربي»؛ لأنهم ــ ببساطة ــ لا يملكون الخبرة السياسية ولم يمارسوا العمل السياسي، ويعتقدون أن حكم دولة ما يشبه «إدارة مخيم صيفي»!. وبقيت أصوات نشاز كصوت صاحبنا «الأكاديمي إياه»، أو «إمام الدعاء إياه»، أضعف من أن يؤدي دورا حركيا ملموسا ويكتفي بالنعيق هنا وهناك على مواقع التواصل الاجتماعي أو محاولة اختطاف منبر، ولا غرابة فـ«الصراخ على قدر الألم» الذي سببه لهم فشل مشروع الإخوان في مصر، ولكن يبقى الخطر الحقيقي الذي يجب أن نتنبه له، هو تأثيرهم المحتمل على الطلاب والطالبات في المدارس والجامعات، أو على المصلين في المساجد، وعلى وزارات التعليم العالي، التربية والتعليم، والشؤون الإسلامية أن تراقبهم بحذر وأن ترصد كل ما يخرج عنهم، وأن تجتث كل بذرة للتطرف من هذه المؤسسات، حتى لا تتكرر أخطاء الماضي. m_harbi999@hotmail.com

مشاركة :