أوغندا:أحمد راغب إذا تمكنت من قراءة هذا النص فأنت دون أدنى شك تعرف القراءة والكتابة، والتحقت بالمدارس والجامعات، وربما حصلت على شهادات عليا، ولكن ما لا تعرفه أن هناك 80 مليون طفل حول العالم غير ملتحقين بالتعليم، وهناك ما نسبته 9% من الأطفال في أوغندا فقط ملتحقون بالتعليم، وإذا تمكنت من قراءة هذا النص أيضاً فأنت دون أدنى شك تمتلك نظراً قوياً تحركه يميناً ويساراً خلال القراءة، ولا شك إن أمسكت الصحيفة بكلتا يديك، وربما بيد واحدة وباليد الأخرى كوباً من قهوة، وربما عند القراءة أيضاً مشيت على قدميك لتناولها من على الطاولة المقابلة لمكتبك على سبيل المثال، ولكن ما قد لا تعرفه أن هناك لاجئين فروا من جنوب السودان إلى شمال أوغندا بحثاً عن السلم بعد حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس راح ضحيتها آباء وأمهات وبقي أطفالهم في كنف حياة صعبة، كما أن هناك عائلات لديها أبناء مصابون بالعمى لا يتمكنون من رؤية شيء سوى الظلام الحالك، وأطفال ولدوا من دون ذراعين لا يستطيعون حمل كتاب أو قلم، وآخرون يمشون على رجل واحدة ويتكئون على عكازة خشبية صنعت من جذوع الأشجار، ومنهم من لا يستطيع الحركة.كانت هذه بعضاً من المشاهد المؤلمة التي رصدتها «الخليج» خلال مرافقتها لوفد دبي العطاء في مهمة شاقة هي الأصعب منذ 10 سنوات، لافتتاح مشاريع تعليمية للاجئي جنوب السودان، ولمواطنين أوغنديين في مناطق نائية تفتقر لأدنى مقومات الحياة، فصحيح أننا نسمع عن فقراء العالم وربما نراهم في وسائل الإعلام، ولكن الواقع يعكس الحياة الصعبة التي يعيشونها، ورغم ذلك فإنهم يحاولون صنع السعادة رغم ضيق الحياة.بمجرد وصولنا إلى منطقة أدجوماني بعد رحلة استمرت 6 ساعات في مناطق نائية وطرق وعرة، كان الاستقبال حافلاً، فالفقر لا يمنع السعادة، ولا يمنع رسم البسمة على وجوه الآخرين، حيث اصطف طلاب المدارس والأهالي هناك لاستقبالنا برقصات شعبية وأغان من وحي تراثهم رغم حرارة الجو المرتفعة، حتى إن أحد الأطفال الذي لم يتجاوز عمره العاشرة، كان يحمل لافتة ترحيب، ولشدة الحرارة كان يضع قدماً فوق الأخرى، ويبدلها بين الحين والآخر لإراحتها من حرارة الأرض، وهناك بعثت دبي العطاء بارقة أمل من خلال إطلاق برنامج للتعليم في حالات الطوارئ مدته 15 شهراً تحت عنوان «توفير التعليم في حالات الطوارئ للاجئين والمجتمعات المضيفة للفتيات والفتيان في أوغندا»، بالشراكة مع «بلان إنترناشيونال»، حيث يهدف البرنامج إلى توفير التعليم للأطفال والشباب اللاجئين من جنوب السودان، وكذلك الأطفال من المجتمعات المضيفة في شمال أوغندا. إلى مصير مجهول إحدى الأمهات من النازحين تروي المعاناة، عندما سردت قصة الهروب من الحرب والاستقرار في إحدى مقاطعات أوغندا، حيث غادرت هي وزوجها وأطفالها واستمروا بالسير لمدة يوم كامل دون راحة، فحملت هموم أبنائها وزوجها الذي يعاني إعاقة مضت بهم إلى مصير مجهول، حتى وصول المقاطعة التي يقطنون بها الآن، حيث كانوا يحصلون على 3 كيلو جرامات من الطعام للشخص الواحد خلال الشهر فقط، كما أن أبناءها التحقوا بالتعليم ولشح الأماكن كانوا يتعلمون تحت الأشجار.صعوبات جمة تواجه الحياة هناك رواها الأهالي بحرقة، منها ندرة المياه، حيث يضطرون للسير 3 كيلومترات للحصول عليها، وأحياناً يضطرون للنوم بجانب البئر، حتى يحين دورهم لتعبئة الأواني الفارغة التي حملوها على رؤوسهم ويعودون في اليوم التالي، كما أن الصفوف المدرسية تحتوي أكثر من 80 طالباً وهو عدد كبير في ظل شح المدرسين، فضلاً عن معاناتهم عدم وجود فصول مدرسية للتعليم الثانوي، فقطار التعليم يتوقف في المرحلة الأساسية فلا تعليم بعدها. مخيم أصحاب الهمم في اليوم التالي توجهنا مع الوفد إلى مقاطعة أمولاتار حيث مخيم أصحاب الهمم، وهناك كان المشهد مؤلماً عن سابقه، فأحدهم يبحث عن وسيلة لتعليم أبنائه الأربعة المصابين بالعمى ولم يجد، حتى إنه لا يستطيع الخروج للعمل والبحث عن قوت يومه، ليبقى بجانبهم ويلبي احتياجاتهم، وفي مشهد آخر بقدر ألمه إلا أنه مفعم بالأمل والتحدي، لفتاة تبلغ من العمر 15 عاماً وُلدت من دون ذراعين، إلا أن ذلك لم يمنعها من التعلم عندما بدأت باستخدام قدمها للرسم والكتابة، فلم تكن في البداية تستطيع الذهاب إلى المدرسة كونها تبعد لبضعة كيلومترات، ولكن مع إطلاق دبي العطاء لبرنامج بالشراكة مع مؤسسة «ليونارد شيشاير لذوي الاحتياجات الخاصة»، يهدف إلى ضمان التحاق 500 طفل من أصحاب الهمم في المقاطعة ذاتها بالمدارس الأساسية، تمكنت هذه الفتاة من الالتحاق بالتعليم دون الحاجة لقطع مسافات طويلة، كما تمكن أطفال آخرون من الالتحاق بالتعليم بعد أن حرمتهم منه المسافات.طفل آخر يدعى دينيس سوجالا، طالب متفوق في التعليم ولكنه لم يتمكن من العودة إلى مقاعد الدراسة، لبعد المدرسة عن المخيم، خصوصاً بعد أن فتكت الغرغرينا بقدمه اليمنى، ما اضطروا إلى قطعها، فبات يمشي على قدم واحدة ويتكئ على عكازة خشبية، وبفضل برنامج دبي العطاء لأصحاب الهمم، تمكن من التغلب على إعاقته، ويستكمل دينيس ذو ال13 ربيعاً الآن تعليمه بعد أن قامت «دبي العطاء» بالتعاون مع شريكها «ليونارد شيشاير لذوي الاحتياجات الخاصة»، بتقييم حالته من أجل إلحاقه بالمدرسة واستكمال تعليمه ومنحه الأدوات اللازمة التي تساعده على الذهاب إلى المدرسة لإكمال تعليمه. وفقاً لمنظمة اليونيسيف، في أوغندا تصل نسبة الأطفال من أصحاب الهمم إلى 9% فقط من الملتحقين بالمدراس الأساسية في الوقت الحالي، وفي المقابل تبلغ النسبة العامة لالتحاق الأطفال الآخرين 92%، وبالتالي فإن عدداً كبيراً من الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة يفتقرون إلى التعليم الأساسي. الفتيات والعلوم والتكنولوجيا وإلى جانب البرنامج الجديد الذي يهدف إلى دعم اللاجئين من جنوب السودان والمجتمعات المضيفة في شمال أوغندا، أطلقت دبي العطاء برنامجاً جديداً آخر بمقاطعة ليرا بالشراكة مع «منتدى التربويات الإفريقيات» لتعزيز العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات بين الفتيات في أوغندا، ويسعى هذا البرنامج الذي تصل مدته إلى ثلاث سنوات، إلى معالجة الفوارق بين الجنسين، والعوائق التي تواجه الفتيات في مجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. وتستفيد من البرنامج 6 آلاف فتاة ويتماشى البرنامج مع أجندة 2030 المتمثلة في جعل العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات سبيلاً نحو التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وبالإضافة إلى ذلك، يهدف البرنامج إلى تحسين ممارسات التعليم والتعلّم من خلال تطوير المناهج التربوية المستخدمة في الرياضيات والعلوم والهندسة والتكنولوجيا، بهدف تعزيز التفوق التعليمي في هذه المجالات عند طالبات المدارس الثانوية في أوغندا، وسيركز البرنامج أيضاً بشكل كبير على تعزيز مهارات الفتيات. طارق القرق: تحدى التضاريس والمخاطر طارق القرق الرئيس التنفيذي لمؤسسة دبي العطاء أكد أنهم يحملون على عاتقهم مسؤولية تقديم الدعم للتعليم في شتى بقاع الأرض، فقيام دبي العطاء كان منذ البداية على دعم التعليم باعتباره الطريق الذي يبدد الظلام في وجه المستقبل، ولعل ما تقوم به المؤسسة يعتبر إنجازاً تتحدى به صعوبة الحياة في المناطق التي تتوجه إليها، فهي تتحدى التضاريس وكل ما يمكن توقعه في جولات محفوفة بالمخاطر، ويروي القرق إحدى التجارب التي اعتبرها من اللحظات الصعبة، عندما توغل الوفد إلى مسافات كبيرة داخل الصحراء لزيارة إحدى المدارس، وفي طريق العودة انقطعت إشارات الإرسال في الجهاز اللاسلكي، وغارت دواليب المركبات في الرمل، إلا أن القرق بخبرته تمكن من إخراج إحدى المركبات وهو ما ساعد على خروج المركبات الأخرى تباعاً.مشاهد كانت تضج بالبؤس وقسوة الحياة، لأطفال صغار حفاة لا يجدون ما يقيهم حرارة الأرض، وثياب رثة وحياة تفتقر إلى الحياة، إلا أنهم بكل قوتهم يحاولون العيش، ويصنعون السعادة بأبسط الأشياء، فالظروف جعلتهم ينتظمون في صف مدرسي يحتوي أكثر من 80 طالباً وهو لا يتسع سوى ل40 أو أكثر قليلاً، يجلسون بجانب بعضهم على مقاعد خشبية، بعضهم يجلس على حوافها، مقتنعين أن التعليم سبيل الخلاص، في مدارس تفتقر لصفوف مدرسية ومرحلة تعليم ثانوي، ومياه صالحة للشرب. تلك المشاهد الصعبة كانت سمة من سمات جولة إعلامية برفقة دبي العطاء عكست الكثير من الحزن لكنه مفعم بالأمل.
مشاركة :