ماذا ستفعل القوة الصهيونية الغاشمة، بل أين تكون بجميع مصادرها، في مواجهة هذا الإبداع؟ هل تعتقله؟! أو هل تبعده خارج البلاد؟! وهل تطلق عليه الرصاص كما تفعل ذلك مع المواطنين الفلسطينيين؟العرب حميد سعيد [نُشر في 2017/12/30، العدد: 10856، ص(14)] أعارني أحد الأصدقاء عددا من الإصدارات الحديثة، كان قد جاء بها إليه مثقف فلسطيني قادم إلى عمّان من فلسطين المحتلة، وإذ كنت أقلبها لأختار ما يمكن أن أقرأه منها، وقع نظري على كتاب بعنوان” رذاذ خفيف.. نصوص فلسطينية”، وأعترف بأن مثل هذه العناوين لا تلفت نظري أو تحرك بي رغبة قراءتها. وقرأت اسم كاتبه “طارق عسراوي” وما كنت قد قرأت له أو سمعت به من قبل، لذا واصلت تقليب الكتاب، باحثاً عمّا فيه من مقومات، تغلب عندي الإقدام على البدء بقراءته، أو تأجيلها أو العزوف عنها وعنه. وانتبهت إلى أن ناشره مكتبة كل شيء في حيفا، فكان مجرد نشره في حيفا قد قرَّبه إلي، وحرّك مثاليتي في العلاقة بفلسطين، هذه العلاقة التي أرى من خلالها أن مجرد وجود مؤسسة تنشر الكتاب العربي والإبداع الفلسطيني، بعد ما يقرب من سبعين عاماً من الاحتلال الصهيوني، بكل وسائله في القمع والتغييب والمحو، مما يؤكد أن الحضور الفلسطيني قادر على مواجهة كل هذه الوسائل، ومن دلائل هذا الحضور أن الكاتب من مواليد العام 1978، أي أنه وُلِدَ بعد ثلاثين عاماً من هذا الاحتلال. وأتوقع أنه بدأ محاولاته في الكتابة بعد خمسين عاماً منه، حيث يقول الشاعر المتوكل طه عن محاولة الكتابة هذه “هنا مدن، عكّا، حيفا، قيسارية، يافا، التي حاولوا أن يقطعوا رؤوسها، فظلت بكامل جمالياتها وعافية ملامحها المنحوتة في أغاني الماء والمنفى والحجر… وهذا بهاء الموت والمفارقة تحت أقواس الدم، ومقطع الحياة العريض الجارح، للمرابطين في أكناف فلسطين”. لطالما قلت: إن فلسطين حالة استثنائية في ما تشكل من حضور رمزي، ليس بفعل الجغرافيا ولا بفعل التاريخ، ولا بتأثير غامض ومتوهم للميثولوجيا، وإنما بهذا الحضور الرمزي في تعدديته، الذي تداخل فيه الخيال بالواقع والواقعي بالأسطوري، فصار ما هو باطل وما هو حق، في حالة صراع، لعله الأخطر والأوسع والأكثر دراماتيكية بين مثيلاته من حالات الصراع. لقد وظف المتخيَّل الصهيوني، كل أسباب القوة الغاشمة ووسائلها، لإنهاء ما اختار من مواجهة لصالحه، وتَوَفَّر له من عوامل الدعم المادي ما لم يتوفر لغيره على امتداد التاريخ، القديم والمعاصر، لكنه لم يحقق ما كان قد خطط له لإنهاء المواجهة لصالحه، فالجبهة الأخرى في هذه المواجهة ما زالت تواصل فعلها وتستمر في المواجهة بأدوات لا تصلح القوة الغاشمة لإنهائها، منها حضور فلسطين حيث يكون الفلسطيني، في البلاد أو خارجها، في الماضي والحاضر، وأقول في المستقبل أيضاً، ومنها استمرار حضورها في الإبداع الفلسطيني الذي يتواصل ويتجدد ويتجاوز الرهان الصهيوني على الزمن. و”رذاذ خفيف.. نصوص فلسطينية” للفلسطيني طارق عسراوي، التي قال عنها المتوكل طه “إنها نصوص الجماعة وقصيدة المكان، والواقع الذي يقدم نماذج عبقرية في قدرتها على التعبير بالشهادة عن الناس، حيث ترقى إلى سيرة الإبداع، ليظل الكاتب لائقاً بفلسطينيته، مستودع الروح والحضارة والأساطير المتجددة”. وأقول: إن “رذاذ خفيف.. نصوص فلسطينية” مثل سواها من الإبداع المتميز، بقدر ما هي فعل مواجهة، فإنها في الوقت ذاته صفحة من صفحات الحضور الفلسطيني، ولم تحقق تميزها بوعي كاتبها أو موقفه في ما يكتب فحسب، بل في مقوماتها الجمالية التي تضعها في فضاء الإبداع الحقيقي. فماذا ستفعل القوة الصهيونية الغاشمة، بل أين تكون بجميع مصادرها، في مواجهة هذا الإبداع؟ هل تعتقله؟! أو هل تبعده خارج البلاد؟! وهل تطلق عليه الرصاص كما تفعل ذلك مع المواطنين الفلسطينيين؟ لذا يمكننا القول: إن حضور الإبداع الفلسطيني هو صفحة من صفحات حضور فلسطين. كاتب عراقيحميد سعيد
مشاركة :