الباحث اللبناني فواز طرابلسي يربط صناعة الحرير المصدر من لبنان إلى مدينة ليون الفرنسية بما يحصل هناك وفي مصر والجزائر وغيرهما من البلدان العربية الرازحة في ذلك الوقت تحت حكم الدولة العثمانية.العرب محمد يوسف [نُشر في 2017/12/30، العدد: 10856، ص(16)]لغة أدبية بعيدة عن الصرامة المدرسية باريس - في مطلع كتابه “تاريخ لبنان الحديث من الإمارة إلى اتفاق الطائف” يذكر المفكر والباحث اللبناني فواز طرابلسي أن جميع الشخصيات الواردة فيه حقيقية، وكذلك الأحداث والمواقع والتطورات وقد لعب التخيّل دوره في ثلاثة مواضع فقط، وهي في الكتاب حلم الصبياني المعدني ورسالة لويز برونيت إلى شقيقها، والحوار بين زوجة شيعا علمان وطانيوس شاهين. أما في كتابه الأخير “حرير وحديد، من جبل لبنان إلى قناة السويس”، الصادر مؤخرا في نسخة فرنسية عن دار نشر “أكت سود” الفرنسية بترجمة الفرنسية توقيع ناتان بونتان وماريان بابو، فلا يتدخل طرابلسي في المادة التاريخية بل يأتي على ذكرها كما هي تاركا لقلمه النقدي هامشا للإيضاح حينا والتحليل حينا. مؤكدا كل التأكيد على أن “هذه الحوليات تنتقل عبر البحر الأبيض المتوسط شرقه وغربه خلال القرن التاسع عشر”، وبالنسبة إليه فإن التدوين يبدأ مع إطلالة موسم الحرير في جبل لبنان ويختتم مع افتتاح قناة السويس في مصر، ومن هنا جاء عنوان الكتاب. فهو يشبه هذا التاريخ بخيوط حرير فوق نول تروح وتجيء، تروي أحداث تلك الفترة وتقدم مصائر أفراد وجماعات وبلدان وأمصار وأقوام وشعوب. عودة إلى صفحات الكتاب الذي سبق أن صدر أصله العربي قبل سنوات ثلاث، فإن الكاتب ينهج فيه نهج المؤرخ الماركسي الذي عرفه القارئ في جل أعماله السابقة، إلا أنه مكتوب بلغة أدبية بعيدة عن الصرامة المدرسية، لغة شيقة وممتعة فيها من السرد والحبك ما يشد القارئ ويحيل المعلومات التاريخية إلى مفاصل قصصية تخفف من عناء ذكر الأحداث والتواريخ والأمكنة. وفي ذات المسعى يقوم الباحث بفرد مساحة كبيرة من عمله لصالح الشخصيات التي تنتهج السرد التاريخي، فتارة على لسان أحمد فارس الشدياق وأخرى على لسان الليدي هستر ستانهوب في الفصل الأول المعنون بـ”نبوءات”، كما يحضر الأمير عبدالقادر الجزائري وغيرهم. ويتناول الكتاب العديد من الأحداث الهامة في بعض البلدان العربية، فيربط صناعة الحرير المصدر من لبنان إلى مدينة ليون الفرنسية بما يحصل هناك وفي مصر والجزائر وغيرهما من البلدان العربية الرازحة في ذلك الوقت تحت حكم الدولة العثمانية، فيربطها طرابلسي بأسلوبه الخاص بالتغيرات التي شهدها العالم، لا سيما في القارة الأوروبية، كثورة تموز الباريسية سنة 1830 وغيرها من الأحداث الهامة. بعض الأحداث التاريخية تكتسب من طبيعة السرد بعدا أسطوريا لا يخفى على القارئ في عمل طرابلسي، على سبيل المثال وصف الاحتفال الكبير في دمشق ورحلة الليدي هستر إلى تدمر، تلك المرأة التي سحرتها البادية السورية وعشقت تفاصيل الحياة هناك وكان لها دور بارز في السنوات الأخيرة لحكم العثمانيين.المادة التاريخية كمُنتج ثقافي ويأخذنا طرابلسي بأمانته التاريخية المعهودة في تلك القافلة التي رافقها فيها مشايخ البدو والفرسان والمترجمون وجمع من الطبّاخين. وصف دقيق لا يتورع طرابلسي في الإشارة إليه في الجغرافيا السورية لا سيما وصف سهول حماة عند مرور الفتاة التي كانت تحضر استقبالا يليق بزنوبيا. وكعادته، يبرز طرابلسي كمؤرخ يتعامل مع المادة التاريخية كمنتج ثقافي، ولكن لا بد من إعادة وضعه في سياق عام مع التأكيد على دور الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع، أي تتحول المادة التاريخية عنده إلى مادة ثقافية وكل تفصيل من تفاصيل الحياة العامة يدب الحياة في هذه الوثيقة ويحولها إلى مادة تساعد على فهم هذه الحقبة أو تلك. وتنتهي أحداث الكتاب بافتتاح قناة السويس في مصر، ذلك الحدث الجلل الذي جاء بعد انهيار مشاريع وصراعات وحكايات في هذه المنطقة الجغرافية من العالم، وذكر معظمها طرابلسي. فكأن كتاب “حرير وحديد” هو تلك الرحلات والمحاولات التي لا تؤخذ كثيرا بعين الاعتبار عند الحديث عن تاريخ المنطقة، إلا أن طرابلسي يعيد بكتابه هذا الاعتبار إلى الهامشي بعيدا عن الحروب والمجاعات إلى الحكايات الشخصية ودور الاقتصاد والاجتماع في مصائر شعوب وبلدان حتى يومنا الحالي.
مشاركة :