عندما خرجت ذلك اليوم من مبنى «الويست إنجنيرنغ»، كنت أحمل هموماً سياسية، إضافة إلى هموم الامتحانات. خرجت من المبنى باتجاه شارع ساوث ينيفرستي، وعلى الرغم من برودة الطقس، وعلى تقاطع ساوث ينيفرستي مع إيست ينيفرستي، فقد وضعت مكتبة أولركس طاولة على الشارع وعليها مئات الكتب التي عرضتها بأسعار مخفّضة. فتوقّفت قليلاً، وكان الثلج يتساقط خفيفاً على الأرض وعلى الطاولة التي عليها الكتب معرّضها للرطوبة. خاصة أن درجة الحرارة كانت أكثر من صفر، لأن الثلج المتساقط كان يذوب في حال ملامسته الأرض. وقعت عيناي على كتابين: الأول «الغريب» لكامو، والثاني كتاب ضم أبحاثاً حول علاقة تطور الرأسمالية بالمذهب البروتستانتي، والذي شاءت الاقدار أن يكون هذا الكتاب مرجعاً مهمّاً لي، عندما حضّرت رسالة الدكتوراه الناقدة لفكرة التمويل الإسلامي. أخذت الكتابين، اللذين أعتقد أن سعرهما لم يتجاوز ثلاثة دولارات، وتوجّهت إلى الكاشير الذي وضعهما في الكيس البلاستيكي المعروف لهذه المكتبة التي يحتاجها كل طالب في الجامعة، لأنها تبيع الكتب الدراسية المقررة. وكنت كثيراً ما أستخدم كيس هذه المكتبة كشنطتي اليومية. خرجت من أولركس منعطفاً يساراً في طريقي إلى الشقة التي أسكن فيها، قاطعاً شيرج ستريت ماشياً بمحاذاة البراون جغ على اليمين، ومطعم الدن على اليسار. لم أشاهد أياً من الأصدقاء في مطعم الدن، فالخامسة مساء لم يكن أبداً موعدنا في «الدن». فالعشاء في البيت. أما مطعم الدن، فعادة ما نلتقي فيه ظهراً. انعطفت يميناً على ساوث فوريست، متوجّهاً الى العمارة التي أسكن فيها، وفي بداية الطريق أقابل زميلة لي في أحد الكورسات، فتسألني: ماذا اشتريت من أولركس يا حامد؟ تأخذ الكيس وتفتحه لتجد هذين الكتابين، فتعلّق، قائلة: كنت أعتقد أنك تدرس الهندسة. أصل إلى الشقة لأرمي الكتابين ثم أبدأ بالطبخ وهو النشاط الذي مارسناه بانتظام يضاهي الانتظام في حضور الدروس. أتناول العشاء مع صديقي ثم أدخل إلى الغرفة لأتفحص الكتابين اللذين اشتريتهما. وعندما فتحت «الغريب» استمررت في قراءته وأكملته خلال يومين. وأعتقد أن جزءاً من شغفي به كان لسرقة وقت واجبات في الرياضيات والهندسة. أذكر أن أكثر ما أعجبني آنذاك كان موقفه الوجودي من محاكمته، بعد أن قتل عربياً على ساحل البحر، بعد أن وجد نفسه في حالة من الفزع أدت إلى أن يطلق الرصاص من مسدس استعاره من صديقه. وفي المحاكمة لم يحاكم على جريمة القتل فقط، وإنما لأن إيمانه المسيحي كان ضعيفاً، وأنه قام بالتدخين أثناء جنازة والدته. ولعل أهم مقطع شدني في الرواية ـــ آنذاك ـــ كان وصفه لقدرة الفرد على احتدام الخيال والذاكرة لفك عزلته عندما ذكر كامو في «الغريب»: «بعد أسابيع معدودة في السجن، صار بوسعي أن أقضي ساعات لا أفعل فيها شيئاً غير إحصاء ما يوجد في غرفتي. هكذا كلما زدت إمعاناً في التفكير، انبثقت الأشياء المنسية المجهولة من ذاكرتي. وأدركت ــــ آنذاك ــــ أن رجلاً لم يعش سوى يوم واحد من حياته يستطيع أن يقضي مئة سنة في السجن، أو سيكون لديه من الذكريات ما يكفيه كي لا يمل». التقيت منذ يومين تونسياً يعمل في الكويت، وأخذنا الحديث معه إلى «غريب» ألبير كامو. ولكن حتى أنا استغربت عندما أخبرني أنه قرأ هذه القصة سبع مرات. فاطمأننت إلى أني لست غريباً في شغفي بـ«الغريب»! د. حامد الحمود Hamed.alajlan@gmail.comhamedalajlan@
مشاركة :