المراقب العربي، أو الأجنبي، للوضع في لبنان، ليس معنياً بتفاصيل الخلاف بين الرئاستين الأولى والثانية حول مرسوم ترقية ضباط، تلك التفاصيل المضجرة تنضم إلى سابقات لها بين زعماء لبنانيين على عتبة الانتخابات النيابية، وقد تتفاقم لتصل إلى اللعب على حافة الهاوية. ويؤكد إصرار الزعماء على لعبة التطرُّف وشدّ العصبية الطائفية أن هؤلاء وتابعيهم لم يتعلّموا جيداً من دروس الحروب الأهلية المتلاحقة التي ألحقت بوطنهم خراباً واستدعت تدخُّلات أجنبية. الإقليم والعالم في هذه المرحلة ليسا معنيين بلبنان ولكن، لا أحد يضمن انفلات الخيوط من أيدي الزعماء اللاعبين، فثمة يأس من نظام ما بعد اتفاق الطائف سببه أن «الطائف» لم ينفّذ كاملاً، ولم يصل اللبنانيون بالتالي إلى انتخاب برلمان خارج القيد الطائفي كما اتفقوا في المدينة السياحية السعودية، ودعم اتفاقهم، في مطلع تسعينات القرن الماضي، كبار الإقليم والعالم. ويعود نقص التطبيق إلى رغبة الراعي السوري آنذاك في استمرار تحكُّمه بسياسة لبنان وسياسييه، وبذلك أصبح المسؤول عن استخبارات الجيش السوري في لبنان مرجعاً للزعماء اللبنانيين المتخاصمين، وله الكلام الفصل في أي خلاف. اليوم لا جيش سورياً في لبنان ولا مسؤول عن استخباراته، والزعماء متروكون ليضجروا من خلافاتهم، أو ليجددوا حرباً أهلية ليسوا مؤهلين لها بحكم الوجود العسكري الثقيل لـ «حزب الله»، أو لتأكل أجهزة الدولة الجامعة على أيديهم. هذا ما يفعلون بلا وازع من ضمير، أو من حسّ وطني، أو من شعور إنساني تجاه الجموع الطائفية المهيأة للسير خلفهم حتى الهاوية. وقد يفهم المراقب العربي أو الأجنبي أن الخلاف يعود إلى ضرورة أو عدم ضرورة توقيع وزير المال للمرسوم موضوع المشكلة، والإشارة هنا إلى وزير شيعي المذهب. ولكن، ماذا إذا كان وزير المال من مذهب آخر؟ لن تحصل مشكلة بالطبع، لكن جوهر القضية أن أي مرسوم لبناني يقتضي توقيع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزير المعني بموضوع المرسوم. وبالإشارة إلى أن الرئاستين الأولى والثالثة يتولّاهما ماروني وسنّي وأن الرئاسة الثانية، أي رئاسة البرلمان، خارج السلطة التنفيذية، يحاول الزعماء الشيعة الحاليون الحصول على توقيع ثابت إلى جانب سائر التوقيعات على المراسيم. تفصيل مضجر لغير اللبنانيين، لكنه مصدر أزمة طائفية، لا سياسية كما يروّج الزعماء. وهم جميعاً يغفلون عن الحل الذي يتجاوز الطائفية، أي سبب زعاماتهم. إنه العودة إلى اتفاق الطائف كاملاً، وصولاً إلى إلغاء الطائفية السياسية. هذا الحل الدستوري لا يعنيهم، كما لم يعن من قبل سلطة الوصاية السورية على لبنان. إن زعماء الطوائف أوصياء على طوائفهم يمنعون حتى بالعنف نمو التيارات المدنية التي تعتمد المواطَنَة، ويخيّرون اللبناني البائس بين أمرين: الطائفية السياسية بوصايتها وفسادها أو الحرب الأهلية التي عَلِمَ اللبناني أمرها وذاق مرارتها. من الصعب، بل من المستحيل، أن يكون اللبناني لبنانياً حقاً، هكذا، مباشرة، من دون لطخة الطائفية السياسية. وإذا ارتضى لنفسه اللطخة سيبقى أسيراً لها، أي أن الطائفيّ لن يستطيع من حيث هو طائفي أن يكون مواطناً، أي لبنانياً. وقد كان الطائفيون في السابق يخجلون، أما الآن فهم يملكون وقاحة الحضور في مقدّم الجموع، يقودونهم للحفاظ على أمر واقع لوطن يشبه الوطن لكنه ليس وطناً. لبنان اليوم كما بالأمس «خلطة» سحرية ووطن لا يشبه إلّا نفسه. طاردٌ سكانه المتمدّنين، ومنذ تأسيسه في عشرينات القرن الماضي، هناك نخبة تتبعها نخبة تطرح السؤال سنوياً: ألا يزال لبنان موجوداً حقاً؟ إنه موجود بشهادة الجميع، لكنه يموت ولا يموت كما قال مرة الراحل خليل رامز سركيس.
مشاركة :