نحن-و«الوهابية»-بين-الامتنان-والنقد

  • 10/6/2014
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

بشكل عام، نواجه نحن السعوديين وضعاً إشكالياً مع تراث الدعوة الإصلاحية النجدية التي أطلق فتيلها الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله قبل 270 عاماً. فمن ناحية وبالمقاييس الدنيوية البحتة، والتي يمكن اعتبارها مقياساً لتحقق المقاصد الشرعية، نحن مدينون لهذه الدعوة الإصلاحية بالنقلة التاريخية التي شهدها مجتمع وسط الجزيرة العربية في القرنين الـ18 والـ19، وبالمشروع السياسي العربي الفريد الذي استوى في نهاية الثلث الأول من القرن الـ20 دولة وطنية تسّمت باسم المملكة العربية السعودية. لكن من ناحية أخرى، يتسبب لنا الإرث العقائدي والفقهي لهذه الحركة الإصلاحية بمشكلات جمة مع العصر الذي نعيش فيه وإليه ننتمي وعلى أساس مقتضياته نطمح أن نؤسس مجتمعنا وحياتنا. بعض هذه المشكلات خاص بتنظيم المجتمع، كما تبدى هذا دائماً وعلى طول مسيرة التحديث السعودية منذ البرقية والهاتف وحتى فتح مجالات عمل جديدة للمرأة ومحتوى المناهج التعليمية وأهدافها. وبعض آخر يختص بمفاهيم أكثر خطورة ووضوحاً من قبيل الأمة وشرعية العنف والجهاد وما يتصل بهذا، كما عشناه على طول العقد الماضي متنقلين من رمضاء «القاعدة» إلى نار «داعش». «القاعدة» و«داعش»، كما هو معروف، تعبيرات عن ظاهرة السلفية الجهادية. إن الممارسات المبثوثة صوراً وكلمات لـ«مجاهدي داعش» وهم يحزون رقاب البشر ويفاخرون باستلذاذهم بنحر «المرتد»، أي المقاتل الذي قد يكون قاعدياً لكنه يرفض مبايعة البغدادي، بل ويتندرون بصعوبة نحر الأصلع، هذه الممارسات جعلت أصابع الفكر تهوي بمشارط الأسئلة على ينابيع التأصيل الشرعي لهذا العنف الذي يبدو محض استلذاذ عبثي بالعنف من أجل العنف. هوت المشارط على خطاب السلفية الجهادية وأصوله، وهذا قاد المتسائلين إلى تراث الدعوة الإصلاحية النجدية نفسه. فخطاب الدعوة الإصلاحية النجدية ومفاهيمها، بخاصة العقدية منها، يشكلان جزءاً جوهرياً من النواة الصلبة لخطاب السلفية الجهادية ومنظوراتها. هذه حقيقة مؤلمة. لكن الهروب من الحقائق مهما كان ألمها ليس حلاً. محبو الشيخ محمد بن عبدالوهاب والمخلصون لدعوته من المعادين للسلفية الجهادية ينكرون هذه الحقيقة ويعملون بدأب على الذب عن دعوة الشيخ وتنزيهها عن ظواهر «القاعدة» و«داعش». ولقد دخلت في حوارات مع عدد منهم. تتكئ استراتيجيتهم الدفاعية بدءاً على التشكيك في دوافع أصحاب النقد الموجه لتراث الدعوة الإصلاحية وعلاقة هذا التراث بالممارسات الشنيعة لـ«داعش»، مستعيدين ذات التقسيمات التي صاحبت المسيرة التاريخية الصعبة والطويلة باتجاه تكوين المملكة العربية السعودية في الربط بين رفض تعاليم الدعوة الإصلاحية من ناحية والموقف العدائي من المشروع السياسي الحامل لها والمعبر عنها والمتمثل في الدول السعودية بأطوارها الثلاثة من ناحية أخرى. أي أن الناقدين للدعوة الإصلاحية وتراثها، بحسب أصحابنا المتحمسين للذب عن دعوة الشيخ، إنما ينطلقون من عداء تاريخي مع الدولة السعودية نفسها. ربما يكون هذا العداء بسبب عوامل أسرية أو مناطقية أو مذهبية. إن كانت الحال كذلك سابقاً فإنها ليست بهذه الكيفية اليوم. فكثير من المطالبين اليوم بفتح مجال النقد للدعوة النجدية الإصلاحية وفصلها عن الدولة إنما ينطلقون من هذا التلازم الذي يصعب نفيه بين التراث العقدي للدعوة الإصلاحية وخطاب الجهادية السلفية اليوم، والذي يشكل خطراً مكيناً على المجتمع والدولة السعوديين. بعض هؤلاء النقاد يتحدر من أسر سلفية وهابية لأجيال. وفي الجملة، المنتقدون هم نتاج لحال وطنية مستقرة اسمها المملكة العربية السعودية، يصدرون في نقدهم عن الخوف على أمنها واستقرارها ووحدتها. أي أن منطلقاتهم مختلفة تماماً عن منطلقات الرافضين للمشروع السياسي الحامل للدعوة الإصلاحية، كما كانت الحال منذ لحظة ميثاق الدرعية حتى استواء المملكة دولة وطنية حديثة. إن منطلقات المنتقدين لهذا التلازم بين العنف الجهادي المعاصر والتراث، العقدي منه خاصة، للدعوة الإصلاحية هي الصدمة من وجود أسس في خطابنا العقدي للممارسات الشنيعة المرتكبة من جماعات العنف الجهادي. لنفهم، إذاً، أن الدعوة لنقد تراث دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب تنطلق من حسابات الحاضر وليس من إرث تاريخي معادي للدعوة من أصلها. إنها دعوة تجديدية تتم بالبواعث نفسها التي حركت آباءنا وأجدادنا لدفع أثمان النفي والهجرة نصرة للدعوة. هؤلاء ببساطة أناس مصدومون بكمية العنف والشراسة وحب التدمير النابعة ليس من أعدائنا ولا من أبناء لنا غُرر بهم من عدو لنا، بل من أبناء لنا غُرر بهم من حملة لخطابات ترجع لأصول خطاباتنا نفسها. لكن مثلما يسجل على حركة النقد المنبثقة نبل دوافعها، يلاحظ عليها عدم تاريخيتها. كيف؟ حين ينصب النقد على الخطاب، أي على الكلمات المرقونة في هذا الكتاب أو تلك الرسالة لهذا العالم أو ذاك، من دون التسلح بالمنظور التاريخي فإن ذلك سيحول النص محل النقد إلى نص منبت الصلة عن سياقه التاريخي الذي أفرزه. وهذا سيحول الدعوة الإصلاحية النجدية إلى محض خطاب مُدان. وهذا - تاريخياً - غير عادل. فكما أن أصول الجهادية السلفية ترجع في جزء منها للدعوة الإصلاحية أو لمصادرها، مثل ابن تيمية، فإن الدعوة الإصلاحية هي أيضاً ما مكن سكان وسط الجزيرة العربية من إنشاء سلطة مركزية للمرة الأولى في تاريخهم المعروف، مع الاحترام لتجارب الآخرين وغيرهم من الممالك العابرة. وهي، أي الدعوة الإصلاحية النجدية، أول حركة دينية إصلاحية يعرفها الإسلام في العصر الحديث. البعض يعدها الشرارة التي قدحت حركات الإصلاح في العالم الإسلامي كله فاتحة زمن اليقظة من غفوته الطويلة. البعض يرجع أصول النهضة لها ولأمثالها، إذ انبثقت هذه الدعوة بعوامل محلية خالصة قبل أن تدك سنابك خيل نابليون باحات مصر المحروسة بـ50 عاماً. لسنا محتاجين لأن نهجوا الدعوة الإصلاحية كي ننقدها. بل إننا، وكما أوضحت دائماً، ممتنين لها. فعفواً عن أن هذه الدعوة كانت تعبيراً عن حال تقدم تاريخي لمجتمع وسط الجزيرة العربية منتصف القرن الـ18، فإنها كانت أيضاً الشرط العمراني، بلغة ابن خلدون، للعبور نحو تكوين سلطة مركزية توجت بعد 180 عاماً من لقاء الشيخ والأمير بإنشاء المملكة العربية السعودية. لم يكن هذا الوطن لولا الدعوة الإصلاحية. وفي الوقت نفسه، الامتنان للدعوة لا يجب أن يترجم تنزيهاً لها عن كل نقد ورفض لكل مراجعة. التحدي الذي نمر به حالياً هو الجمع بين الحقيقتين: حقيقة الفضل التاريخي من ناحية وحقيقة العبء المفاهيمي ونظام تصورات هذه الدعوة وتناقضه مع العصر من ناحية أخرى. إن امتناننا للدعوة الإصلاحية لا يجب أن يتحول قيداً يجعلنا رهينة لمفاهيم ثبت بالتجربة أنها باتت تحمل تهديداً وجودياً لذات الدولة الناتجة عنها، عفواً عن أنها وفي أقل مستوياتها خطورة تشكل حاضنة مفاهيمياً للعنف الجهادي جيلاً وراء آخر. وفي الوقت نفسه، إن نقدنا لهذه الدعوة يجب أن يتم في سياق من التثمين لمنجزاتها التاريخية الفريدة. محتاجون نحن للجمع بين عنصري الامتنان والشكر من ناحية، وشرعية النقد الذي يجب أن يفضي إلى الانفصال الشعوري عن تصورات الدعوة ومفاهيمها لكل من الدين والدنيا من ناحية أخرى.

مشاركة :