أحمد مصطفى الغر 2018/01/04 بحسيّتها الهادئة تُحسن انتقاء الصور والرؤى والمشاهدات، تشحذ خيالها إلى أقصى مداه، كي تنسج خيوط نص شعري مشحون بالبلاغة، ومثقل بالدلالات، ومطرز بالصور الشعرية المتحركة، فتعيد رسم الأشياء على طريقتها الخاصة، إنها الشاعرة التونسية «هدى الدَّغّاري»، التي التقتها «اليمامة»، وكان لنا هذا الحوار: * قدّمك الشاعر الفلسطيني «راسم المدهون» ذات مرة بقوله «شاعرة تنشغل عميقاً بفن الشعر، فتكتبه بعشق جميل»، لكن تقدم «هدى الدَّغّاري» لقراء اليمامة؟ - في العادة لا أحبّ الحديث عن نفسي، أراه أمراً محرجاً واستعراضاً مجانياً للإنجازات التي لا أراها تصلحه إلا كسِيَرٍ ذاتية، تُطبع على أغلفة الكتب، فقط وحدها القصيدة، من تقدّم الشاعر، تُشعلُ حوله هالة مفاجئة إبّان قراءتها، كأنّما موجة ترفعه إلى الأعلى بدهشةٍ والتماعٍ ما. في هذه اللحظة فقط، حين يلتقي الثالوث: الشاعر – المسرح – المتلقي، يُصنع الفعل الشعري، فيُشار بالبنان: هذا شاعر!، إنها لحظة اعتراف وتقديم طازجة، طرية تصل إلى الشاعر كحمّى لا فكاك منها، تسكُنه ويسكُنها وبها يكون. * القصيدة في دواخلك، إلى أي مدى يرفرف بها جناح حرفة لتصل أعماق المتلقي وتلمس روحه؟ - أرى نفسي دائماً وأنا أكتب الشعر كمشّاءة تقطع مسارب وطرقاً ملتوية، أعبر مناخات وأزمنة متعددة تتأرجح بين السخونة والبرودة، أهتم بالتفاصيل وكتابة البسيط واليومي، أُلبس القصيدة أحياناً كوفية وكنزه، وأعرّيها أحياناً أخرى أمام ذواتنا المتعددة لنقول العالم وتقول تقلباتنا، أمزجتنا في الحب والحزن وكل الانفعالات. هكذا تأتي القصيدة متفجرة من كل هذه التقاطعات، أشبه بدفق أنهار، صور شتى ومشهديات لأشجار لوز، عنادل، نملة تجر حبة أرز، غابة تتمشى فينا، رائحة حب تعبق من إسطبل، لُزوجة، وبقايا حب بروائح تبغ وبعض بهارات طبّاخ ماهر. هكذا تأتي قصيدتي موغلة في الحسّية، ممتلئة بالمشهدية. * قصائدك في ديوان «ما يجعل الحبَّ ساقاً على ساق» جاءت في مجملها مختصرة، كثيفة الصور الإبداعية والدلالية، لكن ثمة تماهياً واضحاً بين الأنثى والقصيدة، هذا يدفعني لسؤالك عن الصورة التي تحظى بها المرأة في قصائدك، وهيمنة حضور الأنثى فيها؟ - المرأة حاضرة في قصائدي، لكن حضورها لم يكن مهيمناً، أكتب قصائد كثيرة بنَفَس ذكوري، وفي غيرها بتلوينات الطبيعة، كأن أكون شجرة رند أو نحلة طنّانة، أو أكون مثلًا أذناً تنصت إلى الطبيعة، أو قلباً ضيّع جنسه ليستوعب العالم. * في ديوانك الصادر مؤخراً «سبابتي ترسل نيراناً خافتة»، يظهر تحرر ذاتك الشاعرة وانطلاقها مبتعدة عن الانضواء على الرؤى الذكورية ومحاصرتها للأنثى، حدثينا أكثر عن هذا الديوان؟ - أعتقد أنه ليس على الشاعر أن يتحدّث عن مكامن جدّة نصّه أو خصوصياته، فهذا دور الناقد لا شك، ولكن يمكن القول إن ديواني «سبابتي ترسل نيراناً خافتة» احتفى بالمشهدية وسكنت قصائده صوراً مثقلة بالحركة والحسّ، أشبه بلقطات سينمائية، أو تصوير فوتوغرافي بضجّة ووقع، هو احتفاء الشاعر بالحياة كشكل من التشاركية التي تؤسسها الذات بعيداً عن قوقعتها حول نفسها. * يقال إن الإبداع الأنثوي، من قبل ومن بعد، يتراجع مقارنة بالإبداع الذكوري، أم إن لك رأياً غير ذلك؟ - لا أؤمن بهذا التقسيم الجندري للأدب، وإن كان الواقع يستبطن هذا التقسيم، ويتمثله في التعاطي مع منتجات الأدب، ولكن لنقل إنّ الإبداع حالة من النضج والعمق لا يتأتيان إلا من ذات غنية ومتفتحة بغض النظر عن جنسها. * يقول «ناظم حكمت» إن أجمل القصائد هي تلك التي لم نكتبها بعد، فهل هذا صحيح بالنسبة ل «هدى الدَّغّاري» أيضاً؟ - نعم، بالتأكيد! * الناقد «د. مقداد رحيم» يرى أن نصوصك تتميز بالبلاغة الفادحة الجلاء، والتكثيف الدال، وأنك تتجهين بالشعر إلى كينونته الخالصة، فأبعدتِه عن الوقوع في شرك المباشرة والتقريرية، فهل اللغزية هي هدفك؟، وهل من الضروري أن يكون الشعر بليغاً وعميقاً خالياً من المباشرة؟ - أكتب قصيدة التفاصيل إن صحت العبارة بلغة أكثر حميمية، وبشيء من الليونة. أحب طراوة الجملة البسيطة في إيجاز وتكثيف ودون تكلّف أو إسهاب لغوي. * يقول ستيفن كوفي «عش بناء على أحلامك لا بناء على ماضيك»، فبماذا تتميز العلاقة الرابطة بين الماضي والحلم في حياة الشاعرة «هدى الدَّغّاري»؟ - أعتقد أنه لا يمكن الحديث عن فصل بين الأزمنة والمناخات في الكتابة، هناك تداخل حدّ التماهي دائماً: بين الماضي والحلم، الحاضر والغائب، الطفولة والكهولة، فالأحلام ليست دائماً تأتي من القادم، فقد نقتنصها من صندوق ذكريات الطفولة، كهولتنا لا تمنع من كتابة قصيدة معجونة بماء الطفولة، راقصة بأقدام عارية، ملوّحة كهدية عيد، في يد طفل! كوننا في صيف متعرّق لا يمنعنا من كتابة قصيدة ماطرة، هكذا تأتي إلينا في عز الظهيرة بمطرية وشال يلف رقبتها. * ما جديدك الذي يمكن أن ننتظره منك قريباً؟ - لدي مجموعة شعرية جديدة، مازالت قيد الإعداد والتهيئة.
مشاركة :