يُسهم فن الرسم في بناء شخصية الفرد طيلة حياته، ويُشكل نموّه الجمالي وفكره الإبداعي وتوافقه النفسي ومهاراته البدنية العضلية الحسحركية، إن فن الرسم وتحريك النقطة ليكون لها وجود مادي ومعنوي، كأثر وسُمك ولون واتجاه، تتحوّل النقطة من نطفة لخط يتحرّك في كل اتجاه، بهيوليّة "إنشائية تصويرية" عجيبة يشكّلها الإنسان صغيراً أو كبيراً، يُشكّل بها ما يرد على عقله من ذكريات وأفكار، أو يروّح عن نفسه ويفرّغ مشاعره وانفعالاته أيّما كانت، ويعبّر بخطوط الرسم عن آماله وآلامه وأحلامه وما تراه خيالاته، قد لا نعرف قيمتها وأهميتها إلا بقراءة تلك الخطوط، وقد ندقق فيما وراء الصورة. يتخذ الخط عند تشكّله صورة خط مستقيم صارم أو منحني رقيق وحنون، أو متعرّج ومتموّج أو متكسّر أو مرتعش مضطرب أو أو... إلى آخره من صور طبيعة خطيّة، يفجّر الرسام القيم الفنية اللغوية والنصية والسيميائية والسردية الجمالية للخط، بالقلم والحبر على صفحات الورق كتلاً وفراغاتٍ، إيقاعات وتناغمات وتباينات، وحدةً وتنوعاً وانتظاماً، يجمع التناقضات إيجابية الخط والشكل والكتلة مع سلبية الفراغ والفضاء، الرقة والامتلاء، عملية إبداعية بامتياز؛ يُسلّم الرسام نفسه روحه يده وأنامله وقلمه وحبره، حوارات داخلية من أجل إرسال خطاب خارجي، لا نعلم معاييره ونظامه القواعدي البنيوي الهيكلي البنائي إلا بعدما تولد اللوحة من المخاض الإبداعي. في الحقيقة، ظهرت دراسات سيكولوجية وصفية تحلّل سمات شخصية الإنسان من خلال خطوطه، حيث يظهر منها سمات الصبر والدقة والوضوح والجرأة والشجاعة والإقدام، وغيرها من سمات إنسانية سواء بالسلب أو بالإيجاب؛ فمن أين يستلهم الإنسان مفرداته ورموزه التي يُكوّن بها منظومته الفنية ورسالته البصرية؟ يتعامل القرافولوجي مع الصورة علمياً من خلال دراستها ككل وأجزاء مورفولوجيا أو كرسم إيضاحي، فيُراقب الباحث ظاهرة رسوم الفرد كسلوك إنساني؛ فيرصد الأشكال والحركة بدقة ويلاحظ الكتلة والفراغ والثقل والخفّة والتضخيم والتصغير والاتجاه والضغط والميل والارتفاع والفراغ الداخلي والتكرار والاستمرار والتفاصيل، وكلما أمكن من دلالات ومعانٍ ونتائج. تُفيدنا تلك الدراسات الإنسانية في اكتشاف وقياس أي اضطرابات وخلل في التوافق النفسي وتوضّح سمات الشخصية عند المبحوث، يتفرّس الباحث كقصاص أثر في صورة الخط وشكله في غياب كاتبه، كما تُنبئ رسوم الناس أطفالاً ومراهقين وكباراً، عن علامات الذكاء الجمالي والموهبة الفنية البصرية والتفوّق العقلي والأدائي الحسحركي لدى كل فرد منهم على انفراد، كما تُعرّف تلك الرسوم عن شبكة علاقات الرسام بالمجتمع وعلاقته بأهله وبنفسه وتقديره لذاته، ما يُنمّي روح التطوير ومهارات التفكير الإبداعي وتقنيات التعبير البصري لدى الإنسان خطياً. تستخدم تلك الدراسات العديد من اختبارات الرسم مثل ارسم منزل، وجه، شخص، شجرة، دراجة هوائية وغيرها من اختبارات إسقاطية، من أجل قياس الذكاء المكاني كاختبار تورانس للذكاء البصري، والذي يتم فيه فحص الطلاقة والأصالة والمرونة والتفاصيل حل المشكلات باتخاذ القرارات التشكيلية. إن تفريغ الانفعالات الضارة، والتعبير عن الأفكار النافعة، وتصوير الأحلام الغريبة والخيالات المبهرة، وشغل أوقات الفراغ بالفائدة، وحث النفس والروح والعقل والجسد للعطاء والعمل والإنتاج والارتقاء، فيه متعة لا توازيها متعة؛ هذا عندما ترى نطفة وبذرة أفكارك وشعلة وجدانك تطول وتعرض وتميل وتنحني وتدور وتكبر وتتشكّل خطاً وراء خط، وتزدهر وتنتعش بلمسات قلمك، إنها ميدانك وملعبك، تصنع مساحتك بمرسمك ومسّاحتك، مسألة تجربة ترفع معنوياتك للأعلى، وبالممارسة سيُحلّق خيالك لآفاق وعوالم أوسع وبحور أعمق. في تصوّري، فن الرسم إنما هو فن الحياة، وهو ما يميّز الإنسان عن غيره من سائر المخلوقات، فالإنسان يُعبّر من الطفولة للكهولة، هذا يتطلب منا كأمة اقرأ أن ننمّي مهاراتنا في قراءة الصورة وتعزيز الثقافة والمعرفة البصرية، وجعل مهارة الرسم بمختلف أشكاله ومستوياته مهارة أساسية في التعليم العام والجامعي؛ فالرسم كمُخرج له مُدخلات تتطلّب تذوّق كنوز التراث المحلي وروائع الفن العالمي لرموز الرسم التشكيلي من مختلف العصور، فبراعة فن النقوش والكتابات الغزيرة في شتى وجوه جبال الجزيرة العربية، تنُم عن عبقرية عربية قديمة في استخدام الحجر والإزميل والقلم في رسم ملامح تلك العصور والشعوب، عمليات فنية في الرسم والتشكيل والتصوير والتعبير البصري تحتاج إلى تربية، والفن وسيلة بناء الحضارة.أستاذ الرسم والفنون - جامعة جدة من أعمال فهد النعيمة د. عصام عبدالله العسيري*
مشاركة :