الأحزاب الطائفية في العراق أصيبت بالوسواس القهري من الانتفاضة الباسلة للشعب الإيراني وتبدو على عجلة من أمرها بالانتقال من سوء فهم إلى آخر دون كوابح من مرشدها.العرب حامد الكيلاني [نُشر في 2018/01/06، العدد: 10861، ص(8)] المظاهرات الإيرانية أو انتفاضة الجياع تحولت إلى وساوس في صدور ساكني المنطقة الخضراء في بغداد، ونعني بهم حكومة وبرلمان وكتل وأحزاب السلطة والعملية السياسية التي حملتها قوات المارينز الأميركية على ظهور الدبابات وطائرات الأباتشي والتشينوك، أو من التحق بهم. امتدت الوساوس إلى الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني إن في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن، فبين تصريحاتهم أو هذياناتهم القصيرة أو اكتفائهم بالصمت والمتابعة ثمة استعدادات واتصالات وتنقلات تحسبا لأي طارئ من احتمال توقّد الانتفاضة تحديدا وحصرا في جنوب العراق، لأن مخازن وقودها ومقومات اشتعالها هي ذاتها ضمن حدود عناصر الجغرافيا الإيرانية. الحدود مستباحة رسميا بين البلدين، حتى أن وزارة الخارجية في جمهورية إيران الإسلامية تذمرت من بعض إجراءات الحكومة العراقية لحفظ ماء وجهها كدولة ذات سيادة على منافذها الحدودية، رغم أنها إجراءات شكلية ومجرد ختم دخول للزوار الإيرانيين، إلا أن بعض التأخير اعتبرته القيادة الإيرانية مساسا بكرامتها كدولة ذات نفوذ في العراق، بل ذات سيادة مقدسة فوق سيادة العراق السياسية والدبلوماسية؛ خاصة أنها حدثت أثناء زيارة دينية لها وقع اعتباري في نشر خطاب الفتنة الطائفية. كان من نتائج تذمر وزارة الخارجية الإيرانية المطالبة بسحب السفير العراقي في طهران من قبل الحكومة العراقية لأنه لم يعد مرغوبا فيه. الحكومة الإيرانية تعلم جيدا أنها إجراءات لا علاقة لها بالسفير أو بمهامه، إنما كانت بعضا من رغبات مكبوتة عند الشخصيات الحاكمة في العراق للظهور كدولة مستقلة تتعامل مع جميع الدول المحيطة بها بما تراه مناسبا وفق قرارها الوطني. وهو جزء من مناورة مفروضة على السلطات الحاكمة المتعاقبة بعد الاحتلال في العراق للإيحاء بأن الدولة لا تخضع للقرار الإيراني أو أنها ليست عميلة كليا، وفعلا استطاعت شخصيات سياسية، معروفة بولائها المطلق لملالي إيران، من خلال طروحاتها في المؤتمرات العربية والدولية واللقاءات الإعلامية اللعب على حبل الاستقلالية بمانشيتات معادة ومملة، مثل “نحن لا نسمح بأن يكون العراق معبرا لتصدير الأزمات إلى أي بلد مجاور”، و”العراق دولة مستقلة ذات سيادة ولا نحب أن نتدخل بشؤون الدول الأخرى كما لا نحب أن يتدخل الآخرون بشؤوننا”. تحت هذه المقولات الجاهزة تم نقل آلاف المقاتلين من الميليشيات بعنوانها الإيراني الواسع ومادتها المبعثرة من الأفغان والباكستانيين واللبنانيين والعراقيين ومرتزقة آخرين تحولوا إلى عبء وفضيحة في موتهم أو حياتهم، لأنهم بلا ضمانات لأسرهم، والكثير منهم لم يستلموا حتى رواتبهم البسيطة المقررة لهم. وبها أيضا ساهموا بتحويل مطارات العراق المدنية إلى مطارات شحن عسكرية للسلاح والعتاد والتجهيزات لقمع الشعب السوري، وكان لتلك المقولات دور ساعي البريد لإيصال ردود مبطنة إلى دول العالم ولقادة أميركا في البيت الأبيض أو على الأرض العراقية، كأجوبة على أي تصريح مضاد يستهدف النظام الإيراني وتدخلاته في العراق؛ وكأن السلطة في العراق تؤدي واجباتها في غلق وحماية الحدود الإيرانية من داخل حدودها، بينما تسمح لإيران الملالي بتصدير إرهابها إلى العراق ومنه إلى الدول العربية. الفقر في جنوب العراق عامل مشترك للانتفاضة مع الشعب الإيراني ضد الملالي إضافة إلى مشتركات العقيدة. فالملالي في العراق وإن كانوا يرتدون العمامة السياسية داخل قبة البرلمان أو في أحزابهم أو كتلهم الطائفية، أو يرتدون أربطة العنق أو العمامة الميليشياوية، فإنهم جميعا يتساوون في فسادهم وسرقاتهم الأصولية وفي إفقارهم للملايين بسياسة التجويع والبطالة ونقص الخدمات وتحويل المدن إلى بؤس وأرامل وأيتام وحياة غير لائقة أبدا بشعب تتدفق تحت أقدامه دون تنقيب ثروات النفط وخيرات الطبيعة التي انتقلت بالعديد من البلدان إلى مراتب متقدمة بسبب توظيف مصادر الدخل في مشاريع تنموية بديلة تؤسس للتنوع والتطور واحترام حقوق الأجيال القادمة. صور الخميني وخامنئي في شوارع العراق والتي سبق وأن مزقها شباب مدينة الناصرية والمثنى وغيرهما، ولا نستثني كربلاء والنجف، ممكن جدا أن تأخذ منعطفا آخر في هذا التوقيت أو أي توقيت تجتاز فيه الجماهير حاجز الخوف من مشتركات القمع في العراق أو في إيران. الانتفاضة في إيران امتدت إلى القرى والأرياف وتعدت التوقعات وقفزت فوق التهديدات بالإعدامات والإبادات، وتخطت حدود الإذعان العقائدي للسلطة السياسية كمرجعية دينية وجردتها من كل شيء إلا من جذورها كسلطة قمعية مهما كانت ذرائع الأيديولوجيا الخاضعة لها؛ أو مهما كانت قدرة الانتفاضة على الصمود. الفقراء في إيران والعراق يتلمسون ضراوة جوعهم إلى الأمل بالحرية، والوحدة في المحنة الكبرى أيضا، ولا حدود فاصلة بينهم تمنع الولاء للغد أو للوطن، ومن ينقلب مع قد ينقلب ضد، لأن الشعوب ثابتة على حلمها وعلى فقرها في انتظار وعود لن تأتي بها طغمة فاسدة كنظام الولي الفقيه. الرسائل النصية القصيرة لن تجدي النظام الإيراني نفعا في إخماد الانتفاضة، فهو أدرى بحجم الرسائل، حتى من المقربين المنتمين للنظام بحكم العمل ولقمة العيش أو لأسباب الخوف، المرسلة إلى الشخصيات الإيرانية في الخارج وتمنياتهم بزوال النظام الحاكم الذي أساء إلى الشعوب الإيرانية وعلاقتها بالعرب أو بدول العالم. النظام السياسي في العراق ارتكب- بسبق إصرار وترصد- جريمة تُعاقِب عليها كل الأنظمة بأقسى العقوبات لخضوعه المذل لإرادة خارجية؛ ولا فـرق بين أحزاب إسلامية بين هذا المذهب أو ذاك، فالهرولة إلى إيران مكشوفة لنيل الموافقات وإقرار التوافقات ومباركة المناصب أو للاستشارة قبل الوقوع في المحظور من غضب المرشد؛ وليس ببعيد ما تعرض له رئيس مجلس النواب العراقي من حملة نواب التحالف الطائفي لعزله عن منصبه، ثم طلبـه للنجدة من القيادة الإيـرانية ليعود من بعدها إلى مكانته وسط صمت دعاة المشروع الإيراني في برلمان العراق. تغيير القوانين الانتخابية بما يلائم أمزجة حزب الدعوة والأحزاب الطائفية تصب كل روافدها في مصب إعادة تكرير النظام السياسي لإنتاج إرادة المرشد، حتى وإن تكلفوا عناء تبديل أسماء الأحزاب أو تفتيت الكتل إلى مجاميع ووحدات صغيرة سرعان ما تتكالب في تحالفات ما بعد الانتخابات لتشكيل كتلة طائفية أكبر ولو بشعارات مدنية أو سياسية من قادة الميليشيات. الأحزاب الإسلامية أوصلت نفسها إلى حدود السخرية في رضوخها لتنفيذ وصايا المرشد الإيراني بزج قادة الميليشيات في الانتخابات المقبلة، رغم أن بعضها موجود أصلا في الدورات الماضية للبرلمان، وكذلك في تجربتها أسلوب الأحزاب الانشطارية لتمرير ما يتيح لها الفوز بالأصوات على طريقة حصالة النقود المعدنية للأطفال. إلا أن هذه الأحزاب الطائفية أصيبت بالوسواس القهري من الانتفاضة الباسلة للشعب الإيراني وتبدو على عجلة من أمرها بالانتقال من سوء فهم إلى آخر دون كوابح من مرشدها السياحي الذي أوصلها دون ريب إلى نقطة الكارثة. كاتب عراقيحامد الكيلاني
مشاركة :