يشكل دعاء الأمهات والجدات والخالات والعمات والأخوات لأبناء الأسرة والعائلة مادة ثرية في تجلياتها الروحية والإنسانية في المجتمع المصري عامة، والريفي الشمالي والصعيدي الجنوبي خاصة، فهو لا يؤكد عمق العلاقة الأسرية والعائلية فحسب، بل يكشف عن رسوخ أهمية حضور المرأة جدة وأما وخالة وعمة. وقد التفت الشاعر والباحث عبدالرحيم طايع إلى الموضوع في كتابه "السلامة والغنانة" الصادر عن دار النسيم، ولم يكتف بالرصد والتحليل اللغوي والجمالي والإيقاعي بل عمل على تسجيل أكبر قدر من هذا الدعاء، مؤكدا أن الأمهات تدعو للأبناء في كل الدنيا بالستر والصحة والسعادة والنجاح وطول العمر، يدعين بقلب محب راض؛ فعلاقة الأم بأبنائها مجردة من المنافع خلو من المصلحة، وباختلاف البيئات، ومن ثم المكونات الثقافية، تختلف الأدعية وتتنوع حتى داخل الوطن الواحد. ورأى طايع أنه في مصر ـ لأسباب كثيرة ـ النساء غالبا يعتمدن في تعاملهن مع الحياة على مفاهيمهن المتوارثة اجتماعيا؛ ولم تكن جداتنا، أمهات أمهاتنا وآبائنا إلا "ربات بيوت" غالبا، يُجِدن فنون القول ولا يَجِدن ـ في الفراغ الذي يتركهن به الأزواج الساعون إلى الرزق ـ إلا أن يتكلمن ويتذكرن أحوال أبنائهن ـ ضمن الكلام ـ ويدعين لهم بما تجود به القرائح. وقال "لأن نهر الحياة لا يكف عن الجريان؛ فمع إشراقة كل شمس جديدة كنا ـ نحن الأبناء ـ نسمع دعاء جديدا، ولقد أسعدتني الأيام بجدة من قنا (جدتي لأمي) كانت ـ يرحمها الله ـ من هؤلاء اللواتي لا تتوقف ألسنتهن عن الدعاء بشقيه الإيجابي والسلبي؛ كنت أراها دائما ـ خصوصا أيام الخبيز وهي تصعد أو تنزل السلم ـ تدعو لخالي الذي كان أيامذاك من المقاتلين في حرب أكتوبر المجيدة بـ: "النصر ورفع علم مصر"... هكذا!". قسم طايع دراسته إلى ثلاثة أقسام؛ فمن أدعية الزواج إلى السفر إلى الرزق، وهي الموضوعات الثلاثة الحيوية التي اختارها للدلالة على ما عداها في مجال الأدعية من الأمهات للأبناء في محافظة قنا التي كانت منطقة البحث. في الكتاب وفرة من الأدعية مجموعة من الناس شفاهة والتي ربما صار بعضها الآن مهجورا، وهي أدعية، في أغلبها، إيقاعية لا مرسلة بمعنى أن موسيقاها ظاهرة، وهو ما كان الكاتب، حريصا على العثور عليه والتعامل معه دون غيره؛ لاحتوائه على جماليات لغوية، وإبرازها هو المقصد الدقيق من فكرة الدراسة جنبا إلى جنب مع كشف سر الأعماق الإنسانية البعيدة للدعاء كعملية حميمية تفاعلية بين طرفين: الداعي والمدعو له!. وأضاف طايع "دَعَا لفلانٍ أو فلانةٍ دَعْوًا ودُعَاءً ودَعْوَةً ودَعَاوَى أي طلب له الخير؛ والأمهات يدعين للأبناء ـ بلغتهن العامية التي لا يعرفن سواها ـ في كل وقت وحين لاسيما في الأوقات التي تُتَوَسَّمُ فيها البركات؛ كيوم الجمعة أو شهر رمضان أو أيام الأعياد أو ساعة الفَجْر.. ولأهل كل عقيدة نفحاتهم في أيامهم. وأكد أن للدعاء في صعيد مصر خصوصا جغرافيته كما أن له زمنه؛ فكثيرات من الأمهات يفضلن الأماكن العالية أو المفتوحة للدعاء ظنا منهن أنهن يكن أقرب إلى السماء بتلك الأماكن! وفي الأغاني الشعبية الصادرة من الصعيد ما يشير إلى ذلك؛ مثلا يقول الفنان الشعبي ـ ضمن أغانى الحج أو المديح النبوي: "اِدِّعِيـلِي يَا امَّه مِنْ عَلَى السِّـطُوحِ.. ادَّعيتلَك يَا امَّه يَا وَلَدِي يَا عَقْلِي يَا روحي"!. وطبعا يتضاعف الدعاء للأبناء ويتلون حين تلم بهم الملمات وتصيبهم المصائب وتدركهم عوادي الدهر؛ فدائما أحب الأبناء للأم وللأب معا ـ كما كانت الإجابة القديمة على سؤال الحب في هذا النطاق ـ صغيرهم حتى يكبر ومريضهم حتى يَشْفَى وغائبهم حتى يعود! وأوضح أن للزواج أدعية وللسفر أدعية وللرزق أدعية ولكل مناسبة حزينة أو سعيدة أدعيتها التي قد تتطور بتطور الأزمنة وقد تتغير بتغيرها وأيضا قد تبقى كما هي بلا حذف ولا إضافة ولا تصرف. تلك الأدعية ـ على بساطتها وخروجها من صميم القلب ـ تزخر بالإيقاع وبالقيم البلاغية التي تضفي عليها بهاء وتمنحها صمودا هائلا على مر الأيام، ولا تأتي ـ تلك الأدعية ـ في المناسبة الواحدة بصيغة واحدة؛ بل تتعدد الصيغ في جملة رفيعة من القول بألفاظها الدقيقة وإيقاعاتها الأخَّاذة. ولفت طايع إلى أن منطقة جنوب الصعيد من المناطق المشهورة في مصر بالغنى في موروثها الشعبي الذي يعد كنزها الأكبر وسط فقر غريب، مع وفرة الثروات، لمحافظات تلك المنطقة المظلومة. ومحافظتي "قنا" التي أحيا بها رافضا أن أغادرها إلى سواها سعيا إلى تحسين وضع أو تحصيل نجاح تتوسط محافظتَيْ الجنوب الشهيرتين أسوان وسوهاج؛ فموقعها جعلها حلقة لا بد من المرور بها من المحافظتين الأخريين شمالا كان الاتجاه أو جنوبا كما أن كثيرين من أهل أسوان وسوهاج استوطنوها من مُدَد بطريق التجارة أو النسب وتفاعلوا معها وامتزجت ثقافاتهم في ثقافتها "وهي الثقافات المتجاورة ذات المنبع الواحد بالأساس والتي تكاد أن تكون متطابقة وإن ظل كل إقليم على حدة له خصوصيته". وأشار طايع إلى إن التعامل مع مادة تتصل بالنساء في مصر لاسيما في الصعيد ليس سلسا على الإطلاق؛ بل فيه ما فيه من الحرج والصعوبات والأخطار أيضا؛ مما يحمِّل الدولة نفسها عبء الاهتمام بهذا الشَّأن. ورأى أن المرأة المصرية في صورة الأم الصعيدية القنوية ها هنا، ليست كما لا يزال يعتقد كثيرون من الرجال للأسف محض زائدة مجتمعية؛ إنها لو أردنا الحقيقة المحرك الأقوى للأحداث إن لم يكن بأفعالها فبكلامها البليغ المؤثر، بل تُلقَّب فعليا في الصعيد ـ على الرغم من خشونته الظاهرة ـ بـ "عمود البيت". وما يدعو للأسى أنه على الرغم من كل التقدم الذي حصل وارتفاع نسب التعليم وزيادة التوعية إلا أن مجتمعاتنا لم تزل تنظر للمرأة تلك النظرة السطحية المتدنية بل إن رأي بعض النساء في النساء أشنع أحيانا من رأي النوع الآخر بهن. ولفت إلى أنه في الزواج وفي السفر وفي الرزق وفيما سوى ذلك من الموضوعات؛ وجدنا الأم طاقة خلاقة تنصح وتوجه وتدفع للأمام وتبني بتأدية لغوية إيقاعية مختصرة موشَّاة ببديع البلاغة العربية، وفي تنوع صياغي يدل على الغنى والثراء الشديدين. وبالمناسبة معظم هؤلاء اللواتي تصدر عنهن الأدعية لم يتلقين تعليما يذكر، وليست بأيديهن وظائف لكن لديهن فطر سليمة وقرائح صافية. وخلص طايع إلى ضرورة الحفاظ على ما بين أيدينا من ذلك الموروث الشعبي المميز؛ فقد أوشك أن يندثر باندثار سيِّداته وحُفَّاظه ومعتقديه. علينا أن نَجِدَّ في معرفة وإحصاء الباقيات من أوعية مثل ذلك الموروث وأن نوفر لهن "ومعظمهن أميات وفقيرات" ما يعينهن على قسوة الحياة وغلاء المعيشة في إطار أمومة كبرى يجب أن تمارسها الدولة بإحساس حقيقي بالمسؤولية وببساطة ومهارة ورضا. محمد الحمامصي
مشاركة :