د. حازم مراشدة * بات من الواضح أن هذه العملات أصبحت جزءاً من الواقع الذي نعيشه وجزءاً من حركة تطور المجتمعات حتى وإن كان التعامل والاستثمار في هذه العملات ينطوي على نسبة عالية من المخاطر.على الرغم من مرور ما يقارب تسع سنوات على أول ظهور لما يُعرف بالعملات الافتراضية، (وأبرزها البتكوين)، إلا أن التطورات الأخيرة المرتبطة بالارتفاعات الهائلة، بقيمة البتكوين مقارنة بالدولار الأمريكي، قد عملت على جذب انتباه كل من المستثمرين والإعلام على حد سواء، وخاصة فيما يتعلق بماهيّة هذه العملات، وآلية عملها والاستثمار فيها، والمخاطر المرتبطة بهذا النوع من الاستثمار، وأخيراً التوقعات المستقبلية لمثل هذا النوع من العملات.إن العملات الافتراضية بالأساس، هي عملات رقمية يتم إنشاؤها والتحكم بها، من خلال تقنيات تشفير متطورة، وليس لها كيان مادي أو فيزيائي، ولا يتم إصدارها من قبل بنوك أو حكومات، وبالتالي فهذه العملات غير خاضعة لسلطة وإشراف السلطات النقدية؛ لأي دولة، وقيمتها غير مدعومة بأية أصول. أما آلية عملها فتقوم على مبدأ أنها عبارة عن نظام دفع إلكتروني، يتيح لأي مستخدم القيام بعمليات بيع وشراء السلع والخدمات، مقابل خصم أو إيداع قيمة هذه السلع والخدمات في حسابه الإلكتروني من العملة الافتراضية، وبالتالي فهي تعتمد على مبدأ التحويلات من شخص لشخص (أوما يُعرف بالند - للند)، دون وجود وسطاء من أي نوع كالبنوك مثلاً. ويعتمد التعامل بهذا النوع من العملات، على وجود قاعدة بيانات رقمية، أو ما يُعرف بمفهوم سلسلة الكتلة، بحيث يتم تخزين كل المعاملات المالية التي تتم بالعملة الافتراضية، وإدارة المعاملات والتأكد من مصدرها، مما يعمل على تفادي مشكلة الإنفاق المزدوج، وحفظ البيانات والتأكد من مصدرها. وشهدت قيمة العملات الافتراضية، وبالأخص عملة «البتكوين»، ارتفاعات متباينة مقابل الدولار الأمريكي منذ إطلاقها بداية عام 2009، فمع بداية عام 2011، كانت قيمة وحدة البتكوين لا تتجاوز 0.3 دولار، لترتفع بشكل كبير إلى أكثر من 1000 دولار مع نهاية عام 2013، ولكنها عاودت الهبوط بشكل حاد لتصل إلى حوالي 428 دولاراً، مع نهاية 2015 ومن ثم استعادت نفس قيمها السابقة مع بداية عام 2017، لتصل إلى حوالي 998 دولاراً. الملفت للنظر، هو عندما سجلت قيمة «البتكوين» أرقاماً قياسية غير مسبوقة، بتاريخ السابع عشر من ديسمبر 2017، حيث وصلت قيمتها إلى 19,666 دولاراً، وهو ما يعني نسبة نمو خلال عام 2017 تجاوزت 1870%، ولاحقاً وخلال أسبوع من هذا الارتفاع غير المسبوق، انخفضت قيمة «البتكوين» بما نسبته 28.5%.من البديهي أن هذه الارتفاعات المتتالية والتذبذبات الكبيرة جداً في العائد على «البتكوين»، تنطوي على مخاطر كبيرة جداً، مرتبطة بمثل هذا النوع من الاستثمار، للحد الذي دفع بالعديد من أهم المستثمرين العالميين والمفكرين الاقتصاديين، للتشكيك بمستقبل هذه العملات، فقد عبّر مدير أكبر بنك استثماري في العالم «جي بي مورجان»، عن شكوكه القوية تجاه مستقبل مثل هذه العملات. كما صرح جوزيف ستجليتز، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، أن «البتكوين» ناجحة فقط لوجود إمكانية للتحايل ولعدم وجود رقابة، كما طالب بحظرها في حالة عدم وجود رقابة حكومية؛ كونها لا تقدم أي منفعة للمجتمع.وهذا يقود لطرح تساؤلات في غاية الأهمية، وهي: هل فعلاً تمتلك العملات الافتراضية خصائص النقود التقليدية؟ وهل مثل هذا النوع من النقود قابل للاستمرار، بحيث يكون بديلاً للنقود التقليدية مستقبلاً؟ في الواقع أنه يمكن القول إن «البتكوين» تعتبر وسيلة للتبادل؛ شأنها شأن العملات التقليدية، ولكن هناك شكوك كبيرة جداً حول إمكانية أن تكون هذه العملات مخزناً مستقراً للحفاظ على القيمة، أسوة بالعملات التقليدية المدعومة من قِبل حكوماتها، بأصول واحتياطيات. وهناك أيضا شكوك وتساؤلات حول مدى إمكانية اعتبار العملات الافتراضية كوحدات حساب، كما هو الحال في العملات التقليدية؛ كون استخدامها يُقتصر ضمن حدود معينة، وليس كما النقود التقليدية.ردود أفعال البنوك المركزية حول العالم على هذه التطورات المتسارعة، التي تمر بها العملات الافتراضية كانت متباينه، فبعض البنوك اعتبرها فقاعة مالية وفي سبيلها للزوال، مع خسائر محدودة للمتعاملين بها، وبعضها شرعت فعلياً بعمل تشريعات وقوانين لهذه العملات، على أساس أنها موجودة ويتم التعامل بها، بل وحتى إن هناك بعض البنوك المركزية التي تعمل على إصدار عملاتها الافتراضية الخاصة بها، وأخيراً هناك بعض البنوك المركزية التي لم تقم بأي شيء؛ كون هذه العملات غير متداولة داخل هذه الدول.على الرغم من تباين ردود أفعال البنوك المركزية حول العالم، حيال هذه العملات، إلا أنه بات من الواضح أن هذه العملات أصبحت جزءاً من الواقع الذي نعيشه، وجزءاً من حركة تطور المجتمعات، حتى وإن كان التعامل والاستثمار في هذه العملات ينطوي على نسبة عالية من المخاطر. وبالتالي فتصدي البنوك المركزية لهذه التطورات، وقيامها بسن التشريعات والقوانين الرقابية والتنظيمية، يعتبر خطوة في غاية الأهمية لتقوية الاستقرار المالي ولحماية المستهلكين، والحد من استخدام هذه العملات كطريقة لغسيل الأموال، وتعاملات السوق السوداء، وغيرها من الأعمال غير القانونية.وفي هذا المجال نذكر ما قام به مصرف الإمارات المركزي، الذي يُعد من أوائل المصارف المركزية العربية والعالمية، التي سارعت إلى الإعلان عن بدء العمل مع البنك المركزي السعودي، على إصدار عملة رقمية للمعاملات عبر الحدود بين صاحبي أكبر اقتصادين عربيين. هذا القرار يمكن اعتباره سياسة اقتصادية استباقية، تدل على مدى وعي صانعي السياسة النقدية في الإمارات، بالتطورات المتسارعة التي تشهدها سوق العملات الافتراضية.أما فيما يتعلق بالاستثمار في «البتكوين» وغيرها من العملات الافتراضية، فما زال هذا النوع من الاستثمار ينطوي على قدر كبير جداً من المخاطر، وذلك لعدة أسباب لعل أهمها أن أسعار هذه العملات متذبذبة جداً، بحيث تنطوي على نسبة عالية من المخاطر، كما أن عُمر هذه العملات قصير نسبياً، حيث إنه لا توجد بيانات تاريخية طويلة تُمّكن المستثمرين أو المحللين الماليين من تحليلها والاعتماد عليها، عند اتخاذ القرار الاستثماري المناسب، خاصة أن معظم المستثمرين في «البتكوين» وغيرها من العملات الافتراضية، يقومون بشراء العملة على أمل ارتفاع قيمتها في المستقبل، مما تنتج عنه أرباح رأسمالية، لذلك فإن هذا النوع من الاستثمار يتطلب المستثمرين الراغبين بالمخاطر، وذلك للحصول على عائد أعلى وليس المستثمرين اللذين يحاولون تجنب المخاطر؛ إضافة إلى ذلك، فإن هذه النقود ما زالت حتى هذه اللحظة نقوداً افتراضية غير منظمة أو مُشرّعة قانونياً في معظم دول العالم، وغير مُدعّمة بأي احتياطيات ملموسة، وبالتالي ففي حالة حدوث أي اختراق إلكتروني لمحفظة المستثمر، سواء من خلال قراصنة الكومبيوتر أو غيرها من البرمجيات الخبيثة، فلا توجد أنظمة قانونية تحمي المستثمر.في النهاية نستطيع القول إن البتكوين وغيرها من النقود الافتراضية، الناتجة عن التطورات التكنولوجية المتسارعة، أصبحت واقعاً ملموساً وجزءاً من ديناميكية تطور المجتمعات الحديثة، وإن التعامل معها سواء من قبل الحكومات أوالأفراد أوصانعي السياسة النقدية، أوالمستثمرين، أصبح استحقاقاً حتمياً على الرغم من صعوبته، وإن أي تجاهل لهذا الاستحقاق خاصة من قِبل الحكومات والسلطات النقدية، ستكون له عواقب سلبية على المدى البعيد. * أستاذ الاقتصاد المالي في جامعة أبوظبي
مشاركة :