د. حسن مدن في أحد الحوارات معه استحضر إدوارد سعيد ذكرى أول حفلة حضرها للسيدة أم كلثوم. كان في التاسعة من عمره حين ذهب بصحبة عائلته إلى الحفلة التي أقيمت في صالة إحدى دور السينما وسط القاهرة. كانوا في مكان الحفل حوالي التاسعة والنصف مساء، لكن الحفلة لم تبدأ قبل الحادية عشرة. وبالنظر لما عرف عن حفلات أم كلثوم من إطالة، حيث إنها تعيد المقطع الواحد عدة مرات وسط تفاعل الجمهور وحماسه وتصفيقه الممتد، فإن الصبي إدوارد حسب أن الحفلة لن تنتهي، ومع أنه لم يفهم ما كانت تغنيه، على ما ذكر، إلا أنه وجده مؤثراً و«جذاباً بطريقة ما»، قبل أن يضيف: «لكنه محدود إلى حدٍ ما».لم يغادر إدوارد سعيد تلك النظرة أبداً إلى غناء أم كلثوم، فكثير ممن كانوا في عمره آنذاك، صبيان أو فتيات، ربما شعروا الشعور الملتبس نفسه الذي عبَّر عنه، ولكنهم ما إن يكبروا قليلاً حتى يجدوا أنفسهم مسحورين بأداء «الست»، أما هو فظلّ غير ميّال لاستطرادات أم كلثوم الغنائية، رغم ما عُرف عنه من ولع بمصر التي نشأ فيها شاباً، وعاشقاً للهجة المصرية التي يعتبرها من أرشق وأجمل اللهجات العربية على الإطلاق. مرد هذه النظرة عند إدوارد سعيد عائد، في الغالب، إلى طبيعة تنشئته الموسيقية، التي يعود الفضل فيها إلى والدته، على ما يذكر في سيرته، فعائلته من جهة والده لم تكن لديها ميول فنية أو أدبية، ولم يكن والده يهتم بالموسيقى على خلاف الأم التي كانت مهتمة بالموسيقى والأدب، لذلك ظلَّ مديناً لها بكل ما له أهمية لديه: الموسيقى، الأدب، الأفكار، هي التي دأبت على تشجيعه على تعلم العزف على البيانو، وكانت تجلس إلى جانبه عندما يعزف، بل حرصت على استدعاء أستاذ موسيقى بولوني الجنسية فرّ إلى القاهرة خوفاً من بطش النازية، وحين سافر إدوارد سعيد للدراسة في أمريكا، اقترح عليه أسماء بعض معلمي الموسيقى هناك ليواصل التعلم على أياديهم.كانت الأم تحرص على اصطحابه إلى عروض حفلات الباليه في القاهرة وتحثه على سماع التسجيلات الموسيقية، لذلك أصبح الفتى، بسبب تنشئته الموسيقية المبكرة مأخوذاً بالموسيقى الكلاسيكية الألمانية، البعيدة في روحها عن الموسيقى العربية والشرقية الأقرب إلى الموسيقى اللاتينية، وبات أميل إلى التقليد الموسيقي الغربي منه إلى طابع الموسيقى الشرقية وطريقة الأداء في أغاني أم كلثوم. لكن، مع ذلك، ظلَّ إدوارد سعيد يُقدّر أم كلثوم التي ارتبطت بعصر خالد، كما يقول. من الناحية النوستالجية على وجه الخصوص يجد نفسه مشدوداً إلى العصر الذي ارتبط به صوتها الذي يرى أنه لم يتكرر، وأن كل من حاولوا محاكاتها أخفقوا في بلوغ أدائها المتقن. madanbahrain@gmail.com
مشاركة :