كما حدث حين فوجئ العالم بقرار الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» بالاعتراف بمدينة القدس عاصمة لإسرائيل، فقد فوجئ ترامب نفسه بردود الفعل الواسعة والعنيفة غير المتوقعة التي أعقبت إعلان القرار الذي كان الرئيس الأمريكي يتوهم أنه لن يثير سوى ضجة متواضعة من التي تعوّد الرؤساء الأمريكيون صدورها عن الأمة العربية، فإذا بالضجة التي أثارها القرار تتحول إلى زوبعة عالمية، وإذا بالاعتراض على القرار يشمل جميع أعضاء مجلس الأمن باستثناء الولايات المتحدة، وجميع دول الاتحاد الأوروبي، وإذا بالمظاهرات تندلع فجأة في معظم العواصم العربية، وإذا بالعرب والمسلمين والفلسطينيين يتناسون فجأة ما بينهم من خلافات وخصومات ومنافسات، ويتذكرون -دون تمهيد- أنهم أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وأن فلسطين هي قضيتهم المركزية، وأنهم لا يمكن أن يعترفوا بالقدس عاصمة لإسرائيل، حتى لو أدى ذلك إلى إلغاء كل اتفاقيات وعقود السلام التي ابرموها مع الإسرائيليين خلال الأعوام الأربعين الماضية، من إطار السلام في الشرق الأوسط الذي عقد في كامب ديفيد، إلى معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية التي وقعت في واشنطن، ومن معاهدة وادي عربة للسلام مع الأردن، إلى معاهدة أوسلو التي تبادلت فيها كل من منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل الاعتراف والقبلات والأحضان (والذي منه). وفي خلال أسبوع واحد، كان العرب والمسلمون، بمن فيهم الفلسطينيون، قد نفضوا كل ما في قلوعهم من رياح، فعقدوا اجتماعًا طارئًا للجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، وعقدوا آخر استثنائيًا لمنظمة التعاون الإسلامي على مستوى الملوك والأمراء والرؤساء، ليصدر عن الاجتماعين ما يزيد على ثلاثين قرارًا، هذا غير ما يمكن أن يصدر عن الاجتماع الاستثنائي للقمة العربية الذي لم يتحدد بعد موعد انعقاده، من قرارات وإنذارات وتحذيرات. ولم يكد هذا الأسبوع يقترب من نهايته، حتى تسارعت وتيرة التهديدات العربية والإسلامية، وازدادت نبرتها حدة. أوشكت في بعض اللحظات أن تذكرني بالبيانات العسكرية التي كان يبثها مذيع الأمة العربية الشهير -والجهير- أحمد سعيد في أثناء حرب يونيو 1967 حول الانتصارات التي حققتها الجيوش العربية على إسرائيل خلال الساعات الأولى من تلك الحرب التي لم تستغرق سوى ست ساعات، وهي بيانات ثبت -بعد ذلك- أنه لم يكن بينها بيان واحد يعتمد على معلومة صحيحة أو صادقة..! ما لفت نظري أن كل هذه الضجة العنيفة التي أحدثها العرب والمسلمون سرعان ما بدأت تتراجع من غير انتظام، في اللحظة نفسها التي بدأ فيها مؤتمر القمة الاستثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي مناقشاته في اسطنبول، حين اكتشف المجتمعون أن مستوى التمثيل في المؤتمر لا يتناسب مع حجم الضجة الإعلامية العالية التي أحدثها العرب والمسلمون والفلسطينيون، وأن عشر دول من الدول السبع والخمسين التي تتشكل منها منظمة التعاون الإسلامي لم تحضر المؤتمر، وأن 16 دولة لم يحضر رؤساؤها وملوكها القمة ومن ثم ولم تشارك في أعمالها، واقتصر تمثيلها على مستوى رؤساء الوزارات أو وزراء الخارجية أو مستوى أدنى من ذلك، وهو ما يعني أن نسبة الملوك والرؤساء الذين حرصوا على أن يحضروا القمة بأنفسهم، لم يكن يزيد على الربع..! ولعل العرب قد تنبهوا لحظتها فقط أن الرئيس الأمريكي قد اختار التوقيت الأكثر ملاءمة له لكي يبث قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فأعلن القرار في وقت اتسم بتصاعد المشاكل بين الدول العربية وبعضها بعضا، وصلت إلى حد التفكير في تقديم شكاوى متبادلة إلى هيئة الأمم المتحدة، تتهم فيها بعض دول الخليج زميلاتها بدعم الإرهاب في المنطقة، وانتكاس المحاولات التي كانت تبذل لإتمام المصالحة بين منظمتي «فتح» و«حماس» وإعادة الوحدة بين الضفة والقطاع. وعلى عكس ما كان ترامب يتصور، فإن إعلان قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أدى في -البداية- إلى غير ما تمناه، فانتزع العرب أنفسهم مما كانوا غارقين فيه من مشاكل وخلافات وصراعات، وبدوا وكأنهم قد توحدوا لمواجهة خطر ضياع القدس، لكن ذلك لم يستمر سوى أيام قليلة عادوا بعدها إلى قواعدهم سالمين، وتذكروا خلافاتهم التاريخية.. فما كادت قمة إسطنبول تتخذ قرارًا بأن تكون القدس الشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية، حتى تصدى لها فريق من المتشددين العرب والفلسطينيين، أعلنوا تمسكهم بأن تكون القدس الموحدة هي عاصمة فلسطين، ليقود ذلك الطرفين إلى الاشتباك في معركة حول مبادرة السلام العربية التي اعتمدتها قمة بيروت العربية عام 2002، وقامت على أساس مبادلة الأرض بالسلام، وإقامة دولتين لشعبين إحداهما فلسطينية على الأرض التي احتلت في يونيو عام 1967، على أن تكون عاصمتها القدس الشرقية، والثانية هي إسرائيل، على أن تكون عاصمتها القدس الغربية. وهكذا عادت قضايا الخلاف حول الصراع العربي-الإسرئيلي لتبرز كلها من جديد، وكأن ما حدث في الأعوام الأربعين السابقة لم يحدث، من مطالبة الأمم المتحدة باختيار وسيط جديد للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين غير الولايات المتحدة، بعد أن أثبتت موافقتها على اختيار القدس عاصمة لإسرائيل انحيازها إلى أحد أطراف النزاع، إلى إحالة القضية بمجملها إلى الأمم المتحدة لكي تتولاها بنفسها دون وسطاء. وهكذا أصبح علينا نحن العرب أن نعود من جديد إلى ممارسة هوايتنا المفضلة في إصدار بيانات الشجب والاستنكار والإدانة، وعقد الاجتماعات والندوات والمؤتمرات، وتنظيم المظاهرات، وصك الشعارات البليغة كتلك التي ابتكرناها خلال حرب 1948، وكان من أشهرها شعار إن البغاث -البق- في أرضنا يستنسر -أصبح نسرًا-، وهي الشعارات التي حولت البغاث إلى نسور، وإسرائيل إلى دولة لا يستطيع أحد أن يرفض لها طلبًا، حتى لو كان اتخاذ القدس عاصمة لها!
مشاركة :