رجال في الذاكرة فاروق جويده د.غازي زين عوض الله المدني بعض الشعراء قصائد حين تراهم وتسمعهم وتصادقهم فكأنك في عالم من الإبداع الخالص، عالم متناسق في إيقاعه، يسري في نفسك نغمه، تنساب في داخلك ألوانه، إن أجمل أعمال الأدباء والشعراء والمفكرين الصادقين هي شخصياتهم الحقيقية التي يظهرونها بلا عمليات تجميل اجتماعي. ومن هؤلاء فاروق جويده. يطالعك بكلام مختلف، تحية من القلب، نظرة لا تقتحمك وإنما تمد إليك حديث الروح، صوته الهادئ يشي بنبض قلبه المتوتر، أفكاره في صفاء لحظة كونية ملهمة بلا غضب ولا سخرية ولا غطرسة تنظر للبشر نظرات متعالية. رصيده من المحبة بلا حدود عند من يعرفه، كل من قابله مرة واحدة وسلّم عليه يشعر أنه صديقه الوحيد القديم الذي يبوح إليه بأسراره ويعرف من عينيه أخباره، مع أنه يجيد الحكم على كل من يلتقي به ويعرف جيدا أعماق الصادقين ويميزهم عن الأدعياء. ثلاثة نجوم ومضت في لحظة تاريخية بالنسبة لي معا وامتزج ضياؤهم في هالة سحرية تحيط بهم في رحابة السحر البليغ، اقترب مني العزيز سمير سرحان – رحمه الله – وعن يمينه فاروق جويده وعن يساره صلاح فضل، لم أر جويده من قبل، وها هو ذا بين صديقين من عشاق الفنون، سلمت عليه بحفاوة المضيف وفي نفسي شاب صغير يرى دواوينه المنتشرة في أيدي الشباب، تحتضنها أيديهم فوق قلوبهم الصافية التي لم تتعلم من الحياة كثيرا لكن بها حبا يسع الإنسانية كلها ويبحث عن مخلصين يمنحهم عاطفة تفيض ولا تعرف جدولا تنصب فيه. هو قليل الكلام، يترك الشعر ليعبّر عنه، لكن آراءه واضحة في الحياة والحب والصداقة والناس، ويظل هناك كلام بينك وبينه مهما جلست معه فإن لحظة انصرافك هي لحظة وعد بكلام جديد لأن هناك شيئا في فضاء النفس يجذب الكلام بينكما كمغناطيس في مجال كهربائي. كان أول كتاب يصدره الصالون الثقافي الذي أشرف بإدارته منذ عام 1994م في سلسلة المبدعين العرب التي أعتز بها كثيرا عن فاروق جويده من خلال قراءة في قصيدة النجم يبحث عن مدار استطاع صديقي العزيز الكتور سيد محمد قطب أن يأخذ المنهج البنيوي في اتجاه التحليل النفسي ويلمس ملامح بعيدة في أغوار الشاعر والإنسان، وبعد قراءتي لهذا البحث أصبحت الصورة الذهنية لجويده عندي هي صورة النجم البعيد الذي تومض نفسه في آفاق القصائد في حنين لا نهاية له كي يجد طريقا يصل جوهره العميق بالجوهر الإنساني في البشر كافة. يقول د.سيد في هذه الدراسة التي اكتملت في كتابه ما وراء التمثيل الرمزي: يمكننا أن ننظر إلى نص فاروق جويدة السالف ( النجم يبحث عن مدار) على أنه محاولة لقراءة العملية الإبداعية فى حد ذاتها، محاولة يسعى بها المبدع لأن يضع ذاته فى المدار الحقيقي للإبداع، محاولة لكشف الأقنـعة الإنسانية المستترة باللغة، محاولة لتعرية سندباد العصر التائه فى عالم من الزيف المصطنع. إن هذه القصيدة علامة فارقة في إنتاج فاروق جويده فهي من ديوانه آخر ليالي الحلم الذي يعد جسرا بين الرومانسية والنزعة الإنسانية الخالصة الباحثة عن حقيقة الذات في تجربتها الشعورية المنصبة في تشكيل بياني. فاروق جويدة علامة من علامات الروح الثقافية العربية مكتوب على غلاف شعريته الذهبية صنع في مصر برموز عربية واضحة، في ثمانينيات القرن العشرين وتسعيناته لا يخلو بيت لأسرة تعرف القراءة والكتابة في العالم العربي من أعمال فاروق جويدة الشعرية الغنائية أو المسرحية لقد لحن شعره محمد عبد الوهاب وتغنت به سمية قيصر وكان الشباب يقفون بالمئات أمام المسرح القومي بميدان العتبة لحضور مسرحياته الشعرية. وحينما تسير في مقاهر العاصمة المصرية تجد جريدة الأهرام مفتوحة على مقاله الأسبوعي الشهير. لقد رسم قلم جويدة عالما من الشعر الجميل في مخيلة جيل. إنه أب روحي لكثير من المثقفين الذين تنسموا الحياة منذ سبعينيات القرن العشرين وأصبحوا اليوم نجوما تبحث عن مدار.
مشاركة :