الأسهل على الإطلاق عند مناقشة أزمة دولية، أو إقليمية عاتية، أن نمدّ أيدينا إلى الرف الأعلى في خزانة الملابس لإحضار، أو استدعاء وسادة "المؤامرة"، فوق هذه الوسادة كثيرًا ما خلدت الأمم الكسولة للراحة، معتبرة أنها قد أمسكت بتلابيب الأسباب، وبأم الدوافع، ولأنّ مَن دبّروا وتآمروا هم قوى عاتية تقدر على ما لا نقدر عليه، فقد يكون "الصبر" هو الحل..! هكذا يعمل عقل العربي البسيط كلّما داهمته مشكلة عويصة، فهو لا يبدي استعدادًا لمناقشة مكونات المشكلة، ولا كيف اجتمعت عليه، ولا لماذا تداهمه فجأة في كل مرّة، فالمهم أن ثمة "مؤامرة"، وأن ثمة "متآمرين"، وأن تكالب الجميع عليه يزوده بعذر أخلاقي يبرر ميله إلى اللافعل، ويحمّل الآخرين مسؤولية عجزه عن الفعل، أو حتى عن رد الفعل. كلمة واحدة قد تجسد عنوان المأزق الإقليمي الراهن، تلك الكلمة هي "داعش"، وهكذا فقد يفترض البعض أن الخروج من المأزق الإقليمي الراهن، يقتضي إذن القضاء أولاً على داعش، هكذا يبدو منطق التفكير في البيت الأبيض مثلاً، وهكذا يبدو وكأن بريطانيا تشاطره الرأي مع أطراف إقليمية، وأخرى دولية، لكن دولة إقليمية عظيمة الأهمية في تلك الأزمة بالذات، لديها رؤية مغايرة، تلك الدولة التي يتعذر محاربة داعش بدونها، هي تركيا، التي يرى رئيسها أردوغان، أن الهدف يجب أن يكون الإطاحة ببشار الأسد أولاً، قبل أي حديث عن إلحاق الهزيمة بداعش. هذا التباين في ترتيب الأولويات الإستراتيجية لمن يفترض أنهم أعضاء في تحالف واحد يخوض الحرب ضد "الإرهاب"، يضع مصير التحالف برمته على المحك، ويطرح تساؤلات جدية، حول ما إذا كان هذا التحالف حقيقيًّا أو إستراتيجيًّا. الشارع "الإقليمي" الذي يتابع أنباء تقدم قوات داعش في الأراضي العراقية والسورية، لا يستطيع أن يُصدِّق أن تحالفًا يضم قوى كبرى، وتقوده القوة العظمى الوحيدة في العالم اليوم، لا يمكنه وقف تقدم قوات داعش على الأرض، وشعوب هذا الشارع الإقليمي، تسارع في أغلبها إلى الرفوف العليا في خزائن ملابسها، لاستدعاء وسادة "المؤامرة". حديث المؤامرة الشعبي، يفترض أن لدى واشنطن مشروعًا عملاقًا لإعادة هيكلة الشرق الأوسط، وأن هذا المشروع العملاق تعرّض لانتكاسة كبيرة بسبب ثورة المصريين في الثلاثين من يونيو 2013، ثم بالدعم السعودي الإماراتي لثورة الشعب المصري التي أطاحت بحكم جماعة الإخوان المسلمين، ودفعتها بركلة خلفية إلى خارج ملاعب السياسة لسنوات قد تطول، ويفترض هذا الحديث الذي لا يخلو من حقيقة، أن حرب داعش هي جزء من محاولة "أمريكية" للعودة إلى خطة إعادة هيكلة الإقليم بالحديد والنار، وأن التهاون الغربي في توجيه ضربات حقيقية ومؤثرة لجماعة مسلحة تضم شراذم الناس وشتات الفكر المتلبس بالدين، هذا التهاون الغربي مقصود ومتعمّد لاستنزاف طاقة الصبر لدى عرب الإقليم ممّن تحدّوا مشروعات الشرق الأوسط الجديد وممّن دعموهم. هكذا يذهب الظن الشعبي في تأويل سلوك القوى الكبرى من تقدم شراذم داعش وأخواتها فوق الأرض العربية، وهذا الظن قد لا يخلو من حقيقة، لكنه أيضًا لا يخلو من خيالات يستريح لها بعض العرب، أو يريحون بها بعض ضمائرهم الموجوعة، وإن كانت الحقيقة كما أشرت قبل قليل، هي أن ثمة تعارضَ مصالح، وتباينًا في الأولويات الإستراتيجية بين واشنطن ومعظم قوى التحالف الغربي من جهة، وبين بعض أطراف التحالف الإقليمي من جهة أخرى، أبرز أطراف تعارض المصالح وتباين الأولويات مع التحالف الدولي، تجسده تركيا. فبينما كانت داعش تتقدم للسيطرة على عين العرب، كان الرئيس التركي أردوغان الذي فوضه البرلمان التركي في إرسال جيشه إلى الأراضي السورية، يعلن عن ثلاثة شروط للتدخل العسكري لوقف تقدم داعش إلى قلب عين العرب، شروط أردوغان الثلاثة هي: أولاً: أن يتم إقامة منطقة عازلة بطول الحدود التركية السورية، وثانيًا: أن يتم فرض حظر طيران في الأجواء السورية، وثالثًا: أن يتم تقديم السلاح والتدريب لقوى المعارضة السورية "المعتدلة". شروط أردوغان تجاوبت معها باريس على الفور، ولم تستبعد لندن دراستها بين خيارات أخرى، أمّا في واشنطن فقد تجلّت أعراض الحيرة الإستراتيجية في الرد الأمريكي، إذ رحب وزير الخارجية جون كيري بفكرة إقامة منطقة عازلة، ثم سارع البيت الأبيض إلى نفي الترحيب الأمريكي، مشيرًا إلى أن أولوية واشنطن هي هزيمة داعش، وأن إسقاط بشار الأسد ليس الهدف المطروح الآن. الرد الأمريكي على شروط أردوغان، قد يكشف بدرجة ما انعكاسات المشهد الليبي الراهن على مسارات التعامل مع الأزمة السورية، حيث قادت مشاهد دموية للإطاحة بمعمر القذافي، وإهانته على نحو غير مسبوق في التاريخ الحديث كله، إلى تفاقم صراعات دموية في ليبيا تجعل المشهد هناك مفتوحًا على ألف داعش، لكن موقف واشنطن مع ذلك يفضح حيرتها الإستراتيجية، حتى رغم قيام تحالف دولي يزيد أطرافه على أربعين دولة.. فالتحالف القائم لا يبدو متفقًا، أو حتى منسجمًا على أولويات إستراتيجية معينة لدى أطرافه. أردوغان، لديه دوافعه، فتقدمه لحماية عين العرب "كوباني"، سيقدم دعمًا مباشرًا لحزب الاتحاد الديمقراطي لأكراد سوريا، ويدعم بذات الدرجة حزب العمال الكردستاني التركي الذي يطالب بالاستقلال، أو بالحكم الذاتي، أمّا تخاذله عن حماية أكراد عين العرب، فسوف يضع نهاية لفرص سلام مع أكراد الداخل، وربما يفتح أبواب جهنم لصراع داخلي جديد قد يطول أمده، وهو ما جسدت مقدماته بالأمس مواجهات بين شرطة أردوغان والمتظاهرين الأكراد، سقط خلالها واحد وعشرون قتيلاً من الأكراد، وأعلنت السلطات فرض حظر التجول في ست محافظات تركية للمرة الأولى. سوريا باتت صندوق بانادورا، تخشى واشنطن فتحه على مصراعيه، ولا يبالي أردوغان بمحاولة إحراقه، وبين حيرة واشنطن، وحسابات أنقرة، تواصل داعش تقدمها على الأرض، فيما يفتش بسطاء العرب عن وسائد إضافية للمؤامرة في خزانات ملابسهم. moneammostafa@gmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (21) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :