بعيدا عن كل عنتريات الخطابة “المربدية” التي كلفتنا في منطقة الشرق الأوسط من مختلف الأعراق والهويات والأديان والطوائف بأغلبيتنا وأقلياتنا كثيرا من الدم والشتات والعذاب، فإن المنطقة اليوم، أمام منعطف استحقاقات الفرص التاريخية إن صح لنا تسميته بذلك. إما أن نأخذ طريق الدول المدنية الديمقراطية لتحقيق تنمية اقتصادية إقليمية شاملة يعيش منها الجميع أو نأخذ طريق الدم المجبول على وصايات مقدسة فنتحول إلى دول دينية متصارعة باسم الله، والله عز وجل شأنه بريء من كل ما ينسبوه له. أخطر ما يواجهنا في الشرق الأوسط المنهك بكل تاريخه الدموي والمثخن بصراعاته العبثية هو فكرة الدولة الدينية التي يحاول البعض تسويقها مثل نظام الملالي في إيران بصبغة شيعية او نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المنفصم بين علمانية أتاتورك ومقام الباب العالي في تركيا بصبغة سنية، أو ترسيخها مثل اليمين الحاكم الإسرائيلي الذي يعيد إنتاج فكرة الجيتو اليهودي من جديد، عبر مزيد من الانغلاق والعسكرة لكن هذه المرة عن طريق ترسيخ “يهودية الدولة” التي تتعارض مع ما حاولت إسرائيل تسويقه للدول الغربية بانها دولة ديمقراطية. بينما يحاول نظام ملالي طهران على الدوام إعادة إحياء فكرة تصدير الثورة التي أسس فكرتها آية الله الخميني بثورته الدينية التي صبغها بكل مقدس حتى وصل الحال أن ألقى بالإيرانيين في جحيم حروب مع العراق ومفتاح الجنة معلق برقابهم، وبينما يسعى أردوغان إلى ترسيخ حكم استبدادي بإطار ديمقراطي يستنزف فيه ما يشاء من علمانية أتاتورك ويحشو فيها حشوات السلطنة العثمانية، فإن إسرائيل أيضا بإصرارها على يهودية دولتها تعمل على إذابة ديمقراطيتها بعوامل الإقصاء الديني وهو ما قد يشكل سابقة قد تسمح لتشظي الهويات في الشرق الأوسط إلى ما لا يمكن احتماله من نزاعات تفضي إلى حروب إبادة لن تبقي ولن تذر. المفارقة التاريخية أن المملكة العربية السعودية التي وسمها الجميع بالدولة الدينية الأكثر تشددا، هي اليوم ضمن رؤيتها الثورية البيضاء والعصرية الأقرب لنموذج الدولة التي تسعى نحو المؤسسات والقانون والاندماج في محيطها بل وقيادة المنطقة بمبادرات تنموية تجمع ولا تفرق على أسس علاقات دولية غاية في الحداثة. لا يمكن الخروج بالشرق الأوسط من جحيم الأزمات التكاثرية فيه دون الخروج برؤية إقليمية شاملة قائمة على أسس إقتصادية ولعلني أرى في مشاريع السعودية في البحر الأحمر بداية تنمية ريادية إقليمية تؤسس لمشروع إقليمي جديد يجمع البحر الأحمر كمنظومة إقليمية جديدة. لقد علمنا تاريخ الشرق الوسط قديمه وحديثه أن أي نظام قمعي ومستبد لا يمكن له أن يضرب بقواعده في الأرض دون خلق شرعية دينية تفوض له استبداده بفتوى المقدسات وهذا ما نراه في دولة قطر مثلا، التي استثمرت ثروتها الضخمة من الغاز المسال لخلق حاضنة شرعية متبادلة مع الإخوان المسلمين فتعمل على خلق مشروع التيار الإخواني فيما تيسر لها من سبيل في العالم العربي. من هنا، فإنني أستغرب من المثقف الإسرائيلي الذي يقف (كما نقف نحن) مع المتظاهر الإيراني الذي يطالب بدولة عصرية لا دينية تعطيه حقوقه المختطفة باسم المقدس، ولا يقف هذا المثقف الإسرائيلي مع حق الفلسطيني بالعدالة في دولة مدنية هي حق تاريخي له لبناء مستقبل مشترك أفضل للجميع. باختصار… لن أخوض في حرب اتهامات متبادلة مع الإسرائيلي حول من قتل من ومن احتل ومن سجن وارتكب مجازر ومذابح، لكن السؤال الأهم هو من خرّب حل الدولتين، فلنتفق أن الحل صار خرابا، ولنشكر معا السيد دونالد ترامب الذي ـ قصد أو لم يقصد ـ رفع سوية النزاع إلى مستوى أعلى بكثير من حل الدولتين، وكشف لنا وهم التعلق باتفاقيات مستحيلة، ووضعنا (نحن والإسرائيليين) في مواجهة مفتوحة للبحث عن حل حاسم، إما أن نتعايش او نتقاتل بمزيد من الدم إلى حد الفناء. ومنذ عام 1967، أصبح من الواضح أنه إذا أرادت إسرائيل أن تقنعنا وتقنع أغلب الدول الغربية التي تقف بالصف الفلسطيني اليوم بـ”ديمقراطيتها” يجب على الإسرائيليين أن يختاروا بين الاعتراف بحق تقرير مصير الفلسطينيين في دولة خاصة بهم إلى جانب إسرائيل أو منح جميع الفلسطينيين حق التصويت وتمثيلهم داخل حدودها ضمن رؤية دولة واحدة تحقق العدالة للجميع. *كاتب وصحفي مقيم في لندن للتواصل: qudsuk@gmail.com
مشاركة :