بعد نشر كتاب «ابن رشد وهيغل عن الفلسفة والدين» (دار آشغات- 2013) من تأليف كاتارينا بيلو؛ أستاذة الفلسفة في الجامعة الأميركية في القاهرة، نالت بيلو الدكتوراه من جامعة أكسفورد عام 2004، ثمّ توالى نشرها بحوثاً ودراسات عدة في الفلسفة الإسلامية، وأصدرت كتاب «الصدفة والحتمية عند ابن سينا وابن رشد» الذي نالت عليه جائزة إيران السنوية في الدراسات الإيرانية عام 2009. اطّلعت بيلو على عمل إرنست رينان الشهير «ابن رشد والرشدية» الذي أشار فيه إلى أنّ الفيلسوف العربي ابن رشد (ت 1198 م) قال بآراء في الدين تشابه تلك التي قال بها الفيلسوف الألماني المثالي جورج ويلهيام فريدريك هيغل (1770 – 1831 م). بنَت بيلو بحثها على إشارة رينان هذه، فقارنت بين ابن رشد وهيغل لجهة علاقة الفلسفة بالدين لدى كلٍّ منهما. وتقول بيلو إن المقارنة بين الفيلسوفين ليست مبنية على المقاربة التاريخية، بل الموضوعية. وتقصد بيلو بالموضوعية النسبة إلى «موضوع» أي محلّ الدراسة، ولا تقصد بها الموضوعية التي في مقابل الذاتية. والدكتورة بيلو تقدّم تسويغاً لاختيار المقارنة بين الفيلسوفين بأن هيغل لا يظهر أنه تأثّر مباشرة بابن رشد، وتستدل على ذلك بأنّه لم يقدّر الفلاسفة المسلمين كثيراً في كتابه «محاضرات في تاريخ الفلسفة» وأنّه عدّ فلاسفة الإسلام مردّدين لآراء أرسطو من دون إسهام يُذكر. وبالتالي يرى هيغل أنّ الفلسفة الإسلامية لم تقدّم جديداً. وتواصل بيلو نقلاً عن هيغل أنّ الفلاسفة المسلمين طوّروا جدلهم بناءً على النّصّ الديني، وأنّ عطاءهم النّظري كان محدّداً بالوحي. والملاحظ بالتأكيد أنّ هذا الرأي كان هو الرأي السائد في أوروبّا القرن التاسع عشر عن الفلسفة الإسلامية. وممّا تستدلّ به بيلو كذلك أنّ المقارنة التاريخية بين الفيلسوفين لا تصلح لأنّ المدّة الزمنية بينهما طويلة؛ إذ يفصل بينهما نحو ثمانية قرون. وهذه المدّة الزمنية الطويلة إضافة لاختلاف اللغة والسياق الحضاري يجعلان من غير المتوقع اطّلاع هيغل مباشرةً على ابن رشد. وثاني معايير المقارنة، أنّه على رغم الاختلاف الكبير بين سياقي الفيلسوفين والقرون الكثيرة التي تفصل بينهما، فإن هناك تقارباً شديداً بين منهجيهما، ولذا فالمؤلفة تواصل قولها إنّها معنية بمقارنة منظوريهما ونظرياتهما، لا مقارنتهما من جهة التأثير والتأثّر، فالمقاربة التاريخية لا تدعمها الوثائق؛ كما تقول بيلو. ثالث مسوغات المقارنة، أنّ كليهما لديه مشروع للتصالح بين الفلسفة والدين، وتؤكد بيلو أنّ بين رؤيتي الفيلسوفين للعلاقة بين الفلسفة والدين اتّصال. وإن كان ابن رشد سيصالح الفلسفة مع الإسلام، وهيغل سيصالح الفلسفة مع المسيحية، وكلا المنظورين أثار جدلاً في عصريهما وما تلاه. إذن، تؤكد بيلو أنّ هذه المماثلة والتوازي بين الفيلسوفين ليسا مبنيين على المقاربة التاريخية كما أسلفنا، إضافة لعدم وجود الدليل التاريخي. تستدل كذلك أنّ ديني الفيلسوفين مختلفان فهذا مسلم سنّي وذاك مسيحي لوثري. ولكنّ الدراسة المقارنة ناشئة من أنّ كلا الفيلسوفين أبديا اهتماماً كبيراً بالدين والفلسفة وما بينهما من صلة واتّصال. والمنهج المقارن في دراسة الفلسفة ليس جديداً، بل قد سبق إليه الأعلام العرب في الفلسفة، وعلى رأسهم إبراهيم مدكور (1902– 1995) الذي قارن بين فلسفة المعتزلة وفلسفة الفيسلوف الفرنسي ديكارت (1596 -1650) وقارن بين المعتزلة والفيلسوف الألماني ليبنيتز (1646 – 1716). كما قارن محمود قاسم (1913 – 1973) بين الفيلسوف الأندلسي ابن عربي (ت 1240م) والفيلسوف الألماني ليبنتز، وقارن بين الغزالي (ت 1111م) وجان جاك روسو (ت 1778م). وكان لنتائج الدراسات المقارنة العربية في القرن العشرين وبخاصة في ثلثه الأوسط؛ الأثر البالغ في إيضاح العطاء الفلسفي العربي في قضايا فلسفية لم تتطرق إليها الفلسفة الغربية سوى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومثال ذلك دراسة بيلو التي عرضناها في هذا المقال، والتي أوضحت فيها أنّ مسألة العلاقة بين الفلسفة والدين سبق الفيلسوف ابن رشد إلى العطاء فيها قبل هيغل بثمانية قرون. في الاختتام، نقول إن كاتارينا بيلو أعادت الدراسة الفلسفية المقارنة إلى الصدارة بعد أن انقطعت البحوث فيها لعقود عدة. وفي تصوري، فإنّ الدراسة المقارنة في موضوعات عالجها فلاسفة عرب وفلاسفة أوروبيون في الوقت ذاته، لها أهمية بالغة في إعادة الاعتبار للفلسفة الإسلامية ودمجها في مسار الفلسفة العام.
مشاركة :