محرز بن خلف: سلطان مدينة تونس ورمز اعتدالها بقلم: حسونة المصباحي

  • 1/16/2018
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

مقام سيدي محرز الذي يعود إليه الفضل في ترسيخ المذهب السنّي في البلاد التونسية كان ولا يزال يحظى عند التونسيين بالتعظيم والتبجيل.العرب حسونة المصباحي [نُشر في 2018/01/16، العدد: 10871، ص(12)]ملاذ روحي وسط زحام المدينة في قلب مدينة تونس العتيقة، بالقرب من ساحة حي “باب سويقة”، يوجد واحد من أكبر وأعرق المعالم الإسلامية، بل هو الثاني بعد جامع الزيتونة الأعظم، بحسب البعض. هذا المعلم هو مقام “سيدي محرز” الملقب بـ“سلطان” مدينة تونس. و“سيدي محرز” هو محرز بن خلف (953-1022) وكان عالما في الدين والفقه والتصوف، إليه يعود الفضل في ترسيخ المذهب السنّي في البلاد التونسية في فترة احتدت فيها النزاعات الدينية. كما أنه كان قائدا شعبيا يتميز بقدرة عالية على توجيه الناس، وإرشادهم ومساعدتهم على مواجهة المصاعب في أوقات الشدة واليأس. وكان الكاتب والباحث التونسي زين العابدين السنوسي قد ألف عن محرز بن خلف كتابا أصدره في مطلع الستينات من القرن الماضي، أي بعد مرور سنوات قليلة على حصول تونس على استقلالها. ولعله فعل ذلك استجابة لدعوة الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان حريصا على التعريف بالتاريخ التونسي، وعلى إضاءة سير وأعمال الشخصيات التي لعبت أدوارا هامة في السياسة كما في الثقافة وفي العديد من المجالات الأخرى. وكان من الطبيعي أن يستقبل التونسيون ذلك الكتاب بحماس كبير، إذ أن محرز بن خلف، أو “سيدي محرز” كما يسمّونه، كان ولا يزال يحظى عندهم بالتعظيم والتبجيل. وهم يزورون مقامه للتبرك بكراماته، وبه يستغيثون في أوقات الشدائد صائحين “يا سيدي محرز، يا سلطان المدينة، يا سلطان البلاد!”. كما يختص مقام “سيدي محرز” بمواكب عقود الزواج، وبمواكب الأفراح والأتراح. كما يلجأ إليه اليتامى والأرامل والمصابين بالنكبات رجاء الفرج. وفي أواخر عام 2017، قام الدكتور أحمد الطويلي بإصدار طبعة جديدة للكتاب المذكور مصحوبا بمراجعة وبتعاليق. أتباع السنة كانوا مجبرين على التخفي وعدم المجاهرة بمذهبهم، فإن فعلوا ذلك سلطت عليهم عقوبات صارمة وفي المقدمة أشار أحمد الطويلي إلى أن الدراسة التي أنجزها زين العابدين السنوسي كانت موضوعية، حيث أنها كشفت الوجه الحقيقي لمحرز بن خلف، نازعة عنه ما أحاط به من أساطير وخرافات كانت في جلّها من نسيج الخيال الشعبي الجموح. وبحسب الطويلي، تمكّن زين العابدين السنوسي من أن يقدم للقارئ مختلف جوانب شخصية محرز بن خلف الذي لم يكن فقط زعيما دينيا مسموع الكلمة والرأي، بل كان أيضا سياسيا ماهرا عرف كيف ينتصر في جل المعارك التي خاضها. كما أنه كان فقيها متبحّرا في علوم الدين، وشاعرا تغنى بأمجاد تونس. ولم تمنعه المكانة الدينية الرفيعة التي كان يتميز بها من الإشادة بحضارة تونس القديمة أيام كانت روما ترتعد عند سماعها اسم قرطاج. لذلك كتب قصيدة في رثاء هذه الأخيرة، متفجّعا على ما أصابها من كوارث، وما ألمّ بأهلها من مصائر مظلمة. وتعكس هذه القصيدة الرؤية التاريخية لمحرز بن خلف الذي كان حريصا على إبراز التواصل بين مختلف الحقب التاريخية، بما فيها الحقب التي لم تكن إسلامية. ومما جاء في هذه القصيد “خليليّ مرّا بالمدينة واسمعا قرطاجنة ثم ودّعا. طلولا بها تبكي لفقدان أهلها كما تدبّ الأطلال كسرى وتُبّعَا”. وفي قصيدة أخرى في رثاء قرطاج، يقول محرز بن خلف “أنظرْ إلى الأطلال كيف تغيّرت من بعد ساكنها وكيف تنكّرت”. وولد محرز بن خلف في ضاحية أريانة، شمال مدينة تونس عام 953. وهو ينتمي إلى عائلة مرموقة عرفت بحب العلم وبالتمسك بالمبادئ الدينية السمحة. ومن جانب الأب يتصل نسبه بالخليفة أبي بكر الصديق. أما من جانب الأم فله صلة قرابة بأبي زيد القيرواني صاحب الرسالة الشهيرة في المذهب المالكي السني، وبأبي الحسن علي بن محمد المعاقري القابسي القيرواني مؤلف “الرسالة المفصلة لأحوال المسلمين والمتعلمين”. ومبكرا حفظ محرز بن خلف القرآن الكريم، وتعمّق في دراسة اللغة العربية وآدابها. وفي سنوات الشباب أصبح “مؤدبا” يعلم الأطفال القرآن والفقه واللغة العربية. وسرعان ما عرف الشهرة، إذ أن دروسه وأخلاقه الحميدة مكنته من اكتساب احترام الناس وتقديرهم. لذا أخذوا يترددون عليه حين يعجزون عن إدراك حقائق الحياة والوجود أو حين تشتد عليهم المصائب والكوارث. محرز بن خلف كان يتعامل مع اليهود بتسامح كبير، إذ أنه سمح لهم لمّا خضع للمذهب السني سكان مدينة تونس بالسكن داخل الأسوار ومن أريانة انتقل محرز بن خلف إلى قرطاج التي كانت تسمّى “مرسى الروم” في ذلك لوقت. وبعدها اشترى بيتا في مدينة تونس واستقر به مواصلا التدريس والوعظ ومحاربة المذاهب المخالفة للمذهب السني. وكان يفعل ذلك في الخفاء، إذ أن المذهب الشيعي كان سائدا آنذاك، ومدعوما من قبل الحكام الصنهاجيين. لذا كان أتباع السنة مجبرين على التخفي وعدم المجاهرة بمذهبهم، فإن فعلوا ذلك سلّطت عليهم عقوبات صارمة. وسعيا منه لنشر المذهب السني ودعمه، كان محرز بن خلف يسافر بين وقت وآخر إلى القيروان للتشاور مع الشيوخ والعلماء هناك. كما أنه سافر إلى طرابلس مواصلا نشر المذهب السني سرّا من دون أن يكترث بالمخاطر التي هددته أكثر من مرة. وفي القاهرة استقر ليرتوي من علم شيوخها الكبار. وبعد أن أدى فريضة الحج عاد إلى تونس ليجعل جزءا من بيته مسجدا بهدف مواصلة دروس الوعظ والإرشاد. وبسرعة تكاثر أتباعه ومريدوه وأنصاره ليصبح زعيما بالمعنى الحقيقي للكلمة، وبات مسجده يجمع مختلف الطبقات من الوافدين ومن العامة والخاصة. وكان يخصّ عامة الناس ببياض يومه، أما الوجهاء فيستقبلهم في الليل. وفي جلساته، كان محرز بن خلف حريصا على احترام مختلف الآراء، متجنّبا إظهار كلّ شكل من أشكال التحجّر والتزمّت. وكان يتعامل مع اليهود بتسامح كبير، إذ أنه سمح لهم لمّا خضع للمذهب السني سكان مدينة تونس بالسكن داخل الأسوار. ولما عظمت مكانته، وشاعت شهرته، سارع أعداؤه إلى قتله. إلاّ أن ذلك لم يمنع أفكاره وتعاليمه من مواصلة التوسع والانتشار.

مشاركة :