تبلغ مساحة القطب الشمالي 20 مليون كيلومتر مربع، ويعيش شمال الدائرة القطبية 4 ملايين شخص، نصفهم في روسيا. وتحوي المنطقة وفقاً لمسح جيولوجي أميركي عام 2008 على نسبة 30% من احتياطيات الغاز الطبيعي، و16% من احتياطيات النفط غير المستغلة في العالم، إلى جانب الفحم واليورانيوم والفوسفات والنيكل والحديد والبلاتينوم ومعادن الأرض الثمينة. مسح جيولوجي ما يجري في القطب الشمالي لا يخص دول المنطقة فحسب، بل يشكل قضية عالمية لا سيما عندما يتعلق الأمر بتغيير المناخ. القضية هي عالمية، لأن ارتفاع درجات الحرارة في القارة القطبية لا يعزى للنشاط الاقتصادي في المنطقة، بل يعتبر أساساً لانبعاثات الغازات الدفيئة في أنحاء العالم، كما أن تداعيات هذا التغيير الجيولوجي الكاسح، سواء البيئية أو الاجتماعية أو الديموغرافية أو الجيوسياسية، واسعة النطاق على صعيد العالم. ويصح القول إن ما يحصل في القطب الشمالي لا يقتصر على تلك المنطقة، حسبما يقول وزير المناخ والبيئة في النرويج، كليما فيدار هلغسين. ومن الواضح أيضاً أن الارتفاع في درجات الحرارة في العالم وانكشاف الجليد سيؤديان إلى تغييرات جيوسياسية في القطب الشمالي وما يليه، مع افتتاح ممرات مائية جديدة منافسة أمام حركة الملاحة، وتسابق الدول على موارد الطاقة والمعادن الغنية هناك. وفيما سيصبح القطب الشمالي في متناول الفرص الاقتصادية، فإن ذوبان الجليد البحري سيطرح لدول المنطقة تحديات أمنية؛ فروسيا، على سبيل المثال، ستواجه للمرة الأولى اختفاء مقدرات دفاعية طبيعية حاسمة منذ ضمها سواحل القطب الشمالي منذ خمسة قرون ونيف، يقول المحللون. ويبقى القطب الشمالي مكاناً بارداً ومظلماً معظم أيام السنة، لكنه كان يزداد دفئاً بوتيرة أسرع من أي منطقة أخرى. ووفقاً للإحصاءات ارتفعت الحرارة في تلك المنطقة على مدى السنوات الخمسين الماضية، بأكثر من ضعفي المعدل العالمي، وتراجعت الكتلة الجليدية «كراون» بأكثر من 2 كيلومتر في السنوات الخمس الماضية، ما يعني أكثر من متر في اليوم الواحد. وكان هناك ذوبان للتربة الصقيعية، وانهيارات ثلجية وأرضية في الدنمارك، ما يعني أن البلدان بدأت تشهد عاقبة الاحتباس الحراري في القطب الشمالي. ويشير وزير المناخ والبيئة النرويجي كليما فيدار هلغسين إلى ديناميتين لا يمكن التنبؤ بهما نتيجة لارتفاع الحرارة في القطب الشمالي. أولاً: ما أن يتراجع الغطاء الثلجي والجليد البحري، حتى يضعف انعكاس سطحه. وما دامت الأراضي العارية والمياه المفتوحة تستوعب حرارة أكثر من الشمس، فإن ظاهرة ارتفاع الحرارة ستزداد، وهذا سبب مهم في أن القطب الشمالي يسخن مرتين أكثر من معدل المتوسط العالمي. ثانياً: تجمد التربة الدائم في القطب الشمالي يشكل مخزناً لغازات الدفيئة المحاصرة، مثل الميثان وثاني أكسيد الكربون. وعندما يذوب الجليد الدائم قد تنطلق تلك الغازات في الأجواء، ما يرفع درجات الحرارة أكثر. ويؤكد هلغسين أن عدم القدرة على التنبؤ بالنتائج، ووتيرة التغيير المناخي، يعني مفاقمة المخاطر. ويستشهد بتقييم علمي، أعده «مجلس القطب الشمالي»، بأن القطب الشمالي يتحول بسرعة وبطرق غير متوقعة، مؤكداً أنه إذا استمرت هذه الاتجاهات الحالية، فإنه سيكون للأمر تأثيرات عميقة ومتسارعة على النظم الإيكولوجية، وصحة البشر وسلامتهم، والصناعات والاقتصادات في العالم، وعلى البيئة الأمنية. ارتفاع متسارع لمستويات البحار ومن المعروف أن ذوبان الغطاء الجليدي والكتلة الجليدية يساهم في ارتفاع مستوى سطح البحر، وقد تضاعفت تقديرات الحد الأدنى لارتفاع مستوى سطح البحر بحلول 2100، التي قدمها الفريق الحكومي الدولي المعني بتغيير المناخ في عام 2013، بعد مرور أربع سنوات فقط. وإذا واصل تركيز غازات الدفيئة بالمعدلات الحالية، قد يساهم الذوبان على الأقل بارتفاع 25 سنتمتراً إضافياً في مستوى البحار بين 2006 و2100، ما سيؤثر على مئات الملايين من الناس وفقاً لهلغسين. بالنسبة إلى دولة مثل بنغلاديش، فإن ارتفاعاً في مستوى البحار عالمياً بمتر واحد يعني ارتفاعاً بمقدار 1.5 متر بالنسبة لها، وبما أن ارتفاع مستوى البحار ليس متساوياً في أنحاء العالم، فإن ذلك يعني اختفاء نسبة 16% من البلاد، وإجبار عشرات الملايين على مغادرة منازلهم. وبتصور مستقبلي لما يعنيه ارتفاع الحرارة العالمية بمقدار 4 إلى 5 درجات، يقول هلغسين إن الإجابة المحتملة للشرق الأوسط هي، «مناخ أكثر سخونة وجفاف ومنطقة غير صالحة للسكنى تقريباً». ويؤثر فقدان الجليد البحري في القطب الشمالي على أنماط الطقس في العالم أيضاً، وهذا يعود إلى كون النظام المناخي متشابك إلى حد بعيد على النطاق العالمي. وتعمل منطقة القطب الشمالي كنظام تبريد عالمي من خلال سحب مياه المحيطات الدافئة من الجنوب وتبريدها. كما أن حركة مياه المحيطات الأكثر دفئاً إلى الشمال هي بتأثير مهم على المناخ خارج القطب الشمالي، ويعزى لها المناخ المعتدل نسبياً في شمال أوروبا، والبرودة «المدارية». وقد ربطت دراسات عدة بين ذوبان الجليد في القطب الشمالي والتغيير في مسار العواصف والفيضانات وأنماط الطقس الشتوية، والرياح الموسمية، مع عواقب محتملة على المحاصيل الزراعية والأمن الغذائي العالمي. تضخيم المخاطر الأمنية وإذا كان الاحتباس الحراري يشكل عاملاً مضاعفاً للمخاطر الأمنية، يقول هلغسين، فإن القطب الشمالي يعد عاملاً مضاعفاً لمخاطر الاحتباس الحراري في العالم. ويؤكد أن العالم سيشهد مزيداً من الضغوط على النظم الإيكولوجية، وعلى المدى الأطول، سيؤدي التغير المناخي إلى تغير العالم، وطريقة حياة الناس والأماكن التي يمكنهم إنتاج غذائهم فيها، والأمراض التي سيواجهونها. ويشير هلغسين إلى وجود أدلة دامغة تفيد بأن التحولات لن تفضي إلى تنمية بشرية؛ فالحضارة الإنسانية تطورت خلال فترة من درجات الحرارة العالمية المستقرة. وفيما هناك اعتمادية بين المياه والغذاء والطاقة والأرض والصحة والبنية التحتية والعمالة، فإن المؤسسات المسؤولة عن قطاعات منفردة، لن تكون قادرة على معالجتها. وهذا سيؤدي حتماً إلى زيادة التوترات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. هشاشة الدول ويمكن أن يكون تغيير المناخ بمثابة تهديد مضاعف للمخاطر، عندما تفشل الدول أو تنهار؛ ففي سوريا، يشير هلغسين إلى دراسات ربطت الحرب الأهلية بواحدة من أسوأ موجات الجفاف في تاريخ البلاد من عام 2005 إلى عام 2010، ويؤكد أن تلك الدراسات لا تسعى للقول إن الجفاف سبب الحرب، بل للإشارة إلى أن ذلك ساعد في دفع الظروف إلى عتبة الصراع المفتوح، إذا أضيف إلى مجمل ضغوطات أخرى. وتعتبر سوريا مجرد مثال وحيد كيف أن التغيير المناخي يزيد من هشاشة الدول، ويشعل عدم الاستقرار الاجتماعي، ويطلق العنان لإمكانية الصراعات العنيفة والهجرة الجماعية. ويذكر هلغسين ثلاثة مجالات واسعة النطاق للمخاطر، وهي: أولاً:مخاطر مرتبطة بالاقتصاد، حيث قد يجد العالم نفسه أمام وضع أضعف من إدارة أي اضطراب اقتصادي ناجم عن تغيير المناخ. وينقل عن محافظ بنك انجلترا مارك كارني قوله إن تغيير المناخ خطر على الاستقرار المالي، إذ أن المخاطر المادية التي تنشأ عن زيادة وتيرة وشدة الأحداث المرتبطة بالمناخ تلحق الضرر بالممتلكات وتعطل التجارة، وتجعل مجالات متزايدة من الاقتصادات غير قابلة للتأمين، بين أمور أخرى. ثانياً:مخاطر مرتبطة بالتكنولوجيا، إذ تتطلب مكافحة تغيير المناخ تغييراً متسارعاً في التكنولوجيا التي ستتسارع بوتيرة التغيير من حولنا، مشعلة في السياق تحديات واضطرابات وتوترات جديدة، إذ تعد التكنولوجيا بتعطيل أسواق العمالة، وتغيير أنظمة الصحة والطاقة والنقل والتنمية الاقتصادية. ثالثاً:المخاطر المرتبطة بالتحولات الديموغرافية، إذ أنه إلى جانب زيادة الضغوط الاجتماعية، فإن وطأة أحوال الطقس الشديدة وارتفاع مستويات البحار والضغط على البنى التحتية، سيجعل المراكز الحضرية أكثر هشاشة. ومن هنا أهمية السياسة المناخية كأهمية استراتيجية عليا، وضرورة الالتزام باتفاق باريس، واتباع سياسات مناخية أكثر تشدداً، يقول هلغسين، وإن كان ذلك لن يحول على المدى القريب دون التعرض لمشكلات التغيير المناخي، وتأثيراته التي لا يمكن التنبؤ بها على أمن الغذاء العالمي، ما يطرح أهمية المساعدة في الاحتفاظ بالتنوع الجيني لنباتات الأرض الزراعية، كـ«صندوق البذور العالمي» في سفالبارد الذي يشكل احتياطياً أمنياً لهذا التراث المهم. مرسوم تنفيذي وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أبريل 2017 على مرسوم تنفيذي يعكس القيود المفروضة على التنقيب عن النفط في القطب الشمالي من أيام حقبة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، ما يشير إلى نية حكومته البدء في استغلال المنطقة الغنية بالموارد. باسكال فاندر سترايتن، مؤلف كتاب عن إدارة المخاطر في حين أن كندا والولايات المتحدة وروسيا والنرويج والدنمارك هي الدول المتنافسة الأكثر أهمية التي تتنازع على المناطق التي ستمر عبر طرق الشحن في القطب الشمالي، فإن الصين هي على قدم المساواة المنافس الجيو-سياسي في اللعبة، وجانب من مبادرتها «الحزام والطريق» هو الممر القطبي. تشارلز ابينغر، مركز الطاقة العالمي التابع للمجلس الأطلنطي مع فتح منطقة القطب الشمالي للأنشطة البشرية، مثل مرور الشحن البحري والسياحة واستكشاف النفط والغاز، ستزداد سخونة المياه، بتأثيرات وخيمة على النباتات والحيوانات المعتمدة على الجليد، حيث من المرجح أن تواجه الدببة القطبية خطر الانقراض في أقل من 70 عاماً. سكوت بورغرسون، مؤسس «كارغومتريكس» وزميل في مؤسسة دراسات البحرية الدولية منطقة القطب الشمالي هي المنطقة الأسرع سخونة على الأرض وتواصل ثلوجها الذوبان بمعدلات مذهلة. وستكون السنوات القليلة المقبلة حاسمة في تحديد ما إذا كان مستقبل المنطقة على المدى الطويل سيكون جزءاً من مبادرات التعاون الدولي وسيادة القانون، أو يعكس على حد تعبير الفيلسوف هوبز حالة «وحشية» من الصراع. مؤثرات محلية هناك احتمال التسرب النفطي والضرر المحتمل على قاع البحر، والتحديات التي يواجهها السكان الأصليون في التكيف مع تغير المناح وانكماش الجليد، وتقلص مساحات الصيد في منطقة القطب الشمالي، وفيما يوجد في النرويج تشريعات قوية تتعلق بالحفاظ على البيئة، تفتقر روسيا إلى مثل تلك التشريعات، على الرغم من إعلانها عام 2017 «عام البيئة».
مشاركة :