لم يكن أمام أبناء الخبر والمقيمين بها خلال أيام الأسبوع العادية سوى التنزه بأسواق المدينة كمكان للترويح عن أنفسهم، ولا سيما شارع الأمير (الملك) خالد الذي كان في الخمسينيات والستينيات والعقود التالية حتى نهاية التسعينيات، بمثابة شانزليزيه المنطقة الشرقية بأسرها كما أسلفنا وفصلنا في مقالين سابقين. ذاكرة الأجيال المتعاقبة# كان الناس آنذاك حينما يسأمون من المنزل أو من أجواء العمل والدراسة يهرعون للخروج إلى هذا الشارع الاثير المحفورة صورته وبهاؤه وجماله في ذاكرة الأجيال المتعاقبة بغية السير ذهابا وإيابا، والالتقاء بأصدقائهم، أو إمتاع انظارهم بكل جديد تعرضه متاجر الشارع الفخمة. فإذا ما أعياهم السير ألقوا بأجسادهم في أحد المقاهي الكثيرة التي كانت موزعة على جنبات الشارع أو داخل أزقتها الخلفية، فيشربون الشاي والقهوة والمرطبات، ويدخنون الشيشة أو السجائر على وقع الموسيقى المنبعثة من أجهزة الراديو الضخمة المثبتة بإحكام على أحد جدران المقهى الشعبي. وكان هناك من يفضل القيام بكل هذا في «متنزه وكازينو الخبر» الواقع على شارع الظهران قبل مدخل شارع الملك خالد من الجنوب. وأتذكر أن شارع الملك خالد كان مكاننا المفضل للتنزه كل يوم، وخصوصا بعد نهار دراسي طويل أو في أعقاب ساعات طويلة من استذكار الدروس وحل الواجبات المدرسية. مشاتل الخبر# أما في أيام عطلة المدارس والدوائر الحكومية، وكانت وقتذاك مقتصرة على يوم واحد فقط هو يوم الجمعة، فقد كانت وجهة السواد الأعظم من الناس للترويح عن أنفسهم، وخصوصا تلك القلة التي كانت تملك المركبات، هما مكانان تحديدا. فالبعض كان يفضل أن يذهب إلى «مشاتل الخبر» والتي كانت أشبه بغابة خضراء من أشجار الإثل تتخللها مياه جارية ويزين مدخلها بئر ماء كبيرة، حيث كانت العائلات تلقي رحالها مصطحبة معها طعامها وشرابها لقضاء يوم إجازتها وسط طبيعة خضراء ومياه جارية وإنْ لم يكن المكان نموذجيا لخلوه من الكثير من المرافق الضرورية، علما بأن مشتل الخبر كان أيضا مسرحا للهو بعض الشباب الذي كان يأتي مستقلا دراجته الهوائية. وكان المشتل الواقع في شمال غرب الخبر في جزء من الأراضي المعروفة اليوم بمنطقة الحزام الذهبي قد تكوّن أصلا بفضل مشروع إيقاف زحف الرمال الذي تم البدء فيه عام 1949، من أجل مكافحة تمدد تلال الرمال الناعمة التي كانت وقتذاك تؤرق حياة سكان الخبر، خاصة في أوقات هبوب الرياح القوية، وتنغص عليهم معيشتهم بل وتسد أبواب ونوافذ بيوتهم أحيانا (طالع الصور). زحف الرمال# وحول هذا الموضوع ذكر د. عبدالله ناصر السبيعي في كتابه «اكتشاف النفط وأثره على الحياة الاقتصادية في المنطقة الشرقية» (صفحة 167 و169 ـ الطبعة الأولى 1987ـ منشورات الدار الوطنية الجديدة للنشر والتوزيع بالخبر) ما مفاده أن سكان مدينة الخبر كانت لهم الريادة في المشاريع الجماعية من أجل توفير الخدمات الضرورية لمدينتهم، وأن أول أعمالهم الرائدة كان محاولة وقف زحف الرمال وإزاحتها، من خلال شراء مجرفة للرمال ونساف لحمل الرمال المزالة من طرقات المدينة، كما أنهم قاموا بجمع الأموال لزراعة أشجار الإثل شمال المدينة لصد الرمال وإيقاف زحفها، مضيفا: إن المشروع بعد اكتمال زراعته صار بمثابة متنزه للسكان. ومما ذكره الدكتور السبيعي أيضا ـ استنادا إلى مقابلة أجراها مع عبدالعزيز محمد الطبيـّب ـ أن سكان الخبر قاموا في سنة 1950 باستخدام الفائض من الأموال التي جمعوها للمشروع آنف الذكر في تأسيس أول شركة كهرباء أهلية في تاريخ المنطقة الشرقية (ترأسها المرحوم العم عبدالرحمن الفهد البسام) عن طريق شراء مولدين كهربائيين من شركة إنجليزية كانت على وشك الرحيل بعد انتهائها من تنفيذ مشروع ميناء الملك عبدالعزيز بالدمام. محبو البحر والشمس وكان البعض من أهل الخبر يفضلون الذهاب من أجل الترويح في نهاية الأسبوع إلى وجهة أبعد بكثير هي شاطئ العزيزية في جنوب الخبر، في هذا الشاطئ الذي كان أصلا موقعا لثكنات الجيش وخفر السواحل في أواخر الأربعينيات قبل انتقالها إلى مكان آخر، ولم تكن تربطه بالخبر وما جاورها طرق مسفلتة حتى أوائل سبعينيات القرن المنصرم، قام نفر من الشباب الجامعي المتحمس الذي كان يتدرب صيفا لدى شركة أرامكو في منتصف الستينيات باستصلاح وتهيئة الشاطئ ليكون مقصدا لمحبي البحر والشمس. وقد اعتمد هؤلاء، بقيادة السيد فؤاد صالح، على جهودهم الذاتية وتبرعات اصدقائهم وعلى المساعدة الفنية من قبل شركة أرامكو، فقاموا بتنظيف الشاطئ وردم بعض أجزائه وإقامة المظلات وبناء مقصف ودورة مياه وإحضار مولد كهربائي، طبقا لما ورد في تحقيق لمجلة قافلة الزيت حول المشروع، ولأهمية المشروع، وتقديرا لجهود من نفذه حضر حفل الافتتاح أمير الخبر آنذاك المرحوم الشيخ عبدالرحمن العيسى الرميح ومدير شرطة الخبر عبدالرحمن الصويلح والقنصل الأمريكي العام بالظهران ومسؤولون من أرامكو ونفر من المواطنين وبعض أبناء الجاليات الأجنبية، غير أن المحزن حقا هو أنه لا أحد يتذكر اليوم «فؤاد صالح».. الرجل الذي شرع في تنفيذ نواة شاطئ العزيزية قبل أكثر من نصف قرن! لقاء عائلات الخبر# وهكذا صار للخبر شاطئ للنزهة البحرية، وبلاج للاستحمام والتشمس، فصار المكان مقصدا للعائلات والعزاب يتوجهون إليه في نهاية الاسبوع حاملين طعامهم وشرابهم وأثاثهم الخفيف ومعدات طبخهم وأدوات تسليتهم مثل الراديو والمسجل وورق اللعب والكيرم والعود، ومما أتذكره أنني وبعض أقراني من الشباب كنا نستميت من أجل بلوغ شاطئ العزيزية في أيام الجمعة على ظهر دراجاتنا الهوائية أو النارية، وكثيرا ما كنا نتعثر في الطريق لأنه كان رمليا غير معبد، خصوصا في فصل الشتاء حينما كانت الأمطار تهطل بغزارة فتحول ذاك الطريق إلى وحول وطين يصعب اختراقه، فإذا كانت المركبات آنذاك عرضة للتعطل و«التغريز» وسط الوحول فما بالك بالدراجات. ومما هو معروف أن التقاء عائلات الخبر على شاطئ العزيزية اسبوعيا وتلاصقها وتجاورها ساهم في تعرف بعضها على البعض الآخر، وبالتالي أتاح للأمهات اختيار الزوجات لأبنائهن، فكانت هناك زيجات ومصاهرات يعود الفضل فيها إلى نزهات «العزيزية». ويمكن القول انه بسبب ذلك الطريق غير الممهد، وغير المضاء ليلا ما بين الخبر وشاطئ العزيزية في تلك الحقبة، كان هناك من يفضل الذهاب أبعد منه ومن مشتل الخبر في عطلة نهاية الأسبوع، والإشارة هنا هي لشاطئ نصف القمر، أو ما درج موظفو أرامكو الأوائل على تسميته الهاف مون باي (Half Moon BAY) نسبة إلى شاطئ يحمل الاسم نفسه في جنوب مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا. فعلى الرغم من أن هذا الشاطئ كان يبعد عن الخبر بنحو أربعين كيلومترا، إلا أن الوصول إليه بالمركبات كان سهلا ومريحا بفضل الطرق المسفلتة والمضاءة التي بنتها شركة أرامكو. علاوة على الإغراء المتمثل في الوصول المريح إلى شاطئ الهاف مون، كانت هناك إغراءات أخرى تمثلت في اتساع الشاطئ ونظافته وشكله المقوس الجميل المشابه للهلال ووجود كثبان رملية تواجه مياهه وتصلح لممارسة رياضة التزلج على الرمال بسيارات الدفع الرباعي، ناهيك عن شهرته كمكان لصيد أجود أنواع الأسماك، ومنطقة مثلى لممارسة هواية الغطس والتزلج على الماء. استعدادات نصف القمر# ومما أتذكره عن الشاطئ أنه كان يضم قسما خاصا بالعاملين لدى شركة أرامكو لا يسمح للآخرين بالاقتراب منه، وكان هذا القسم، المحاط بحاجز من الشبك، يتميز بنخيله الجميل ومرافقه المتنوعة مثل دورات المياه النظيفة وأماكن الاستحمام بالماء البارد وصالات الألعاب الرياضية ومساحات مضاءة للجري وإعداد الشواء (الباربيكيو) وغير ذلك. ولا أبالغ لو قلت ان سكان الخبر في الفترة التي نتحدث عنها، كانوا يستعدون مبكرا إذا ما قرروا قضاء نهاية الاسبوع على شاطئ نصف القمر، وكأنهم مقبلون على مغامرة كبرى، فكانوا يفحصون سياراتهم ويعبئونها بالبنزين، ويشترون قوالب الثلج ليعبئوا بها ثلاجات الماء اليدوية، ويعدون المأكولات أو يشترونها من الأسواق مع الفواكه الطازجة، ويحضـّرون «ترامس» الشاي والقهوة أو يثلجون زجاجات المرطبات الغازية، والبعض كان ينقل معه أيضا البسط والمفارش والمساند وشيشة الجراك. نزهة الأغنياء والمغامرين بقي أن نقول إن بعض الأفراد من المقتدرين ماديا من أبناء الخبر، كان يفضل قضاء يوم الإجازة الأسبوعية في البحرين، فكان يسافر مثلا على رحلة شركة طيران الخليج المنطلقة من مطار الظهران في الرابعة أو الخامسة من مساء الخميس، ويعود في آخر رحلات الشركة القادمة إلى الظهران في الساعة الثانية عشرة من مساء يوم الجمعة أو نحو ذلك. وكان هناك، بطبيعة الحال، البعض الآخر ممن كان يفضل قضاء إجازته الأسبوعية عند أقاربه ومعارفه في الأحساء وما جاورها من أرياف المنطقة الشرقية الجميلة. كما كان هناك من لا يبالي بالتعب والإرهاق فيقرر الذهاب إلى الرياض لقضاء يوم ونيف مع أقارب له، غير مكترث بالمسافة وحالة الطريق ونوعية وسيلة النقل، ذلك أن السفر في تلك الحقبة إلى العاصمة الرياض كان عملية تحف بها المخاطر، إذ كان على المرء أن يبدأ رحلته من الدمام مستقلا سيارة تاكسي، مشاركة مع خمسة ركاب آخرين بقيادة سائق متهور في أغلب الأحيان، بل يستفزك بإدارة ما يحلو له وحده من أغان، غير أن المعضلة الحقيقية آنذاك كانت تكمن في الطريق الطويل غير المضاء (إلا لمسافات محدودة) ذي المسارين الضيقين، والذي لئن كان مسفلتا، إلا أن الرمال كانت تزحف عليه، ناهيك عن اختراقه بالعرض من قبل الإبل السائبة، وبعبارة أخرى كان الأمر بالفعل مجازفة، على العكس من أيامنا هذه التي ظهرت فيها شبكات الطرق الواسعة السريعة فبات السفر إلى الرياض آمنا وتصاحبه المتعة. الاستمتاع بالطائرات وأتذكر أن البعض منا في سنوات الشباب في الستينيات كان يستقطع من مصروفه المدرسي الضئيل عدة قروش كل يوم، فإذا ما وصل المبلغ إلى 4 أو 5 ريالات قرر قضاء يوم الجمعة في مطار الظهران الدولي.. يستمتع بمشاهدة هبوط وإقلاع الطائرات السعودية والأجنبية، ثم يتناول وجبة غداء خفيفة في مطعم المطار الذي كان يقدم وجبات غير متوافرة في مطاعم الخبر، ويختتم يوم الإجازة بمشاهدة فيلم من روائع هوليوود في «سينما النخيل» التابعة لبعثة التدريب العسكرية الأمريكية، ثم يحشر نفسه في أي سيارة أجرة للعودة إلى الخبر مقابل نصف ريال. image 0 لقطة لشاطئ نصف القمر في عام 1977 تبين شكله الهلالي
مشاركة :