برعاية من العاهل المغربي محمد السادس والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، وبدعوة من جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي في باريس، ومهدي قطبي، رئيس المؤسسة الوطنية للمتاحف المغربية، فتح معرض شامل عن المغرب المعاصر أبوابه في باريس، أمس، في تظاهرة حضارية شاملة تستمر حتى نهاية مارس (آذار) 2015. إنه واحد من المعارض الكبرى التي يقيمها معهد العالم العربي، متيحا للمقيمين في عاصمة النور من عرب وفرنسيين، ولزوارها من مختلف الجنسيات، التعرف على الإنجازات الفنية والأدبية والحرفية لبلد عربي متميز في محيطه. وقد جاء في ملف المعرض أن المعهد أراد أن يسلط الضوء على الازدهار الذي يعيشه المشهد الثقافي المغربي، منذ عدة سنوات، في نهضة حقيقية تمسّ كل ميادين الفن ومختلف مجالات الثقافة. وبفضل تجذره في أفريقيا وامتداداته الطبيعية والثقافية إلى أوروبا وانتمائه إلى العالم العربي والإسلامي، فإن المغرب يقع في قلب التشابكات التي عرفها العالم منذ سقوط جدار برلين. لقد أعطت الفضائيات، في بداية الأمر، ثم الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، الانطباعَ بأن البشرية تعيش على أرض واحدة. وبدا وكأن هذه الظاهرة الجديدة حاملة لِوَعْد انفتاح العالم على كل الأفراد، بغض النظر عن أصولهم ودياناتهم وثقافاتهم. وقد كان التنوع أساسيا بالنسبة لشخصية المغرب، فالمملكة تشبثت بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم أبنائها وانصهار كل مكونات شعبها. وعلى الصعيد الموسيقي، مثلا، تعبر الأغاني التي يؤديها مغنو الراب المغاربة عن كبت الشباب وتطلعاته وأحلامه في وقت واحد. ولا شك أنه من خلال كلماتهم يمكن أن نرصد تساؤلاتهم والتغيرات التي تعتمل في أعماق المجتمع المغربي ومظاهر تقدم المشهد الفني. إن حرية التعبير التي تظهر واضحة في الإبداع الفني وفي المجتمع المدني، يمكن أن يلمسها الزائر في هذه التظاهرة الكبيرة التي تستضيفها باريس، وأن يكتشف، كذلك، كيف استثمر المبدعون المغاربة أنواعا وأساليب فنية بل وأنماط حياة جديدة، لأول مرة منذ ستينات القرن الماضي. هكذا استطاعت مغامرة الفن والتعبيرات الفنية أن تعبر عن نفسها في المشهد السياسي والثقافي للمغرب المعاصر. وقد أنجز هذه النقلة جيلٌ مختلط ومتعدد الأشكال، يتشكل في جزء منه من فنانين لا يهتمون إلا قليلا بهوية إنتاجهم، ينتمون إلى قبائل عابرة للأوطان من المبدعين، أكثر ما ينتمون إلى تيارات أو اتجاهات قومية، يُخاطبون الكرة الأرضية بأكملها ويقترحون أعمالا تبتعد بوضوح عن الانغلاق الإقليمي.. وفي الوقت نفسه اتّبع فنانون آخرون خيار تعبيرات تتناسب خصائِصُها مع حقائق اجتماعية ومع أذواق تختلف عن تلك التي تسود في الثقافات الأوروبية. لأول مر، تستقبل فضاءات معهد العالم العربي وردهاته وطوابقه مشروعا واحدا يجمعها كلها، من صالة العرض إلى السطح، مرورا بكل الأمكنة التي يمكن لها أن تحتضن الفعاليات المبرمجة، ومنها ساحة المعهد الخارجية التي انتصبت فيها خيمة فخمة من الجنوب المغربي. وكي يتاح للجمهور أن يستعيد شيئا من المناخ الذي تزهر فيه التيارات الفنية والأعمال التي تشكل خصوصية الإبداع المغربي المعاصر، لن يكون هناك أي فصلٍ يعزل هذه التيارات. ويمكن للجمهور أن يتنقل بين كل أنشطة هذه التظاهرة من دون أن يُحسّ بالاختلافات المعتادة بين التقليد والحداثة أو بين الفن المعاصر والتعبيرات الأخرى. وهكذا سيخترق التناغم نفسه التظاهرة كلها، من الفنون البصرية إلى التصميم، ومن الهندسة المعمارية إلى الفنون الشعبية وإلى الصناعة التقليدية، من الموسيقى إلى الرقص والسينما، من الأدب إلى مناقشة الأفكار، مرورا بالموضة. وتأتي تظاهرة المعهد منسجمة مع المعرض الذي يقدمه متحف اللوفر بعنوان «المغرب الوسيط، إمبراطورية ممتدة من أفريقيا إلى إسبانيا». وبهذا تكرم مؤسستان ثقافيتان فرنسيتان كبيرتان المملكة المغربية، في بُعدَيْها القديم والمعاصر. كما أن المؤسسات الثقافية التابعة لبلدية باريس قررت الانضمام إلى المعهد ومتحف اللوفر في احتفائهما بالمغرب، حيث تقترح، هي الأخرى، الاحتفال بالخريف المغربي في باريس. وفي هذا الإطار يقدم معهد العالم العربي، بالشراكة مع بعض هذه المؤسسات العريقة، باقة من أفضل العروض الفنية المغربية. تتضمن التظاهرة معرضا للفن المغربي المعاصر يستمر حتى 25 من يناير (كانون الثاني) المقبل، يضم 80 مبدعا من مجموعة من الفنانين الأحياء من أجيال مختلفة، من رواد الرسم المغربي الحديث إلى الشباب الذين يُجرّبون تقنيات مختلفة. وهم ينتمون إلى مجموعات مختلفة تضمّ أولئك الذين حصلوا على اعتراف المتاحف بالإضافة إلى العصاميين الذين فرضوا رؤيتهم. كما يمكن أن نلاحظ، كما كتب الطاهر بن جلون في تقديم المعرض، أن «المبدعين الذين جرى جمعهم في هذا المعرض لا يعرفون بعضهم بعضا في معظم الحالات. أعمالهم الفنية تتحاور وتُحدث ضجة وجَلَبَة، تاركة آثارا وأصداء، بعضُها تُديرُ ظهرَها للبعض الآخر، ولكنها، جميعا، تنسج لوحة مدهشة». جرى تصوُّرُ مساحة المعرض، التي تمتد على ما يقرب من 2500 متر مربع، كرحلة في الذاكرة وفي أعمال فنانين مغاربة. وهي رحلة من دون حدود لأنّ إحدى خصوصيات المغرب هي انفتاح المسالك بين التراث والإبداع، وبين الامتثال والاحتجاج، وبين الشرق والغرب. لهذا يستطيع الزائر الانتقال من موضوع إلى آخر ومن فنان إلى فنان كما تتغير مَشَاهِد المغرب وفضاءات البيوت الداخلية. ولنا وقفة أخرى، في صفحات مقبلة، مع هذا المعرض الشامل الذي يستحق أكثر من مقال.
مشاركة :