لم نشاهد، ويبدو أن كثراً غيرنا وحتى من أبناء الجيل السابق علينا، لم يشاهدوا الفيلم المبكر الذي حققه ألفريد هتشكوك خلال مرحلته الإنكليزية الأولى، عام 1928 عن مسرحية نويل كوارد «فضيلة سهلة» التي كتبها هذا الأخير وكان بعد في الخامسة والعشرين من العمر، لكنها مع هذا حملت الرقم 16 بين أعماله. لم نشاهد فيلم هتشكوك، لكننا ندهش تماماً، إذ نتساءل كيف تمكن سيد سينما التشويق المقبل من تحقيق فيلم صامت، انطلاقاً من مسرحية تقوم أساساً على الحوارات التي لا تتوقف فيها من دون أن تكون هناك حوادث تواكبها. بل إن الحوارات هي الحوادث وكل شيء يمر عبرها. مهما يكن من أمر، فإن «هيتش» فعلها مسلطاً ضوءاً كاشفاً على تلك التي ستعتبر من أهم مسرحيات كوارد المبكرة، ولو في مجال التوغل في دراسة النفسيات، كما في التقاط ثنايا صراع الذهنيات الذي كان يشغل في ذلك الحين كثراً من الكتاب المتأرجحين بين القارة الأوروبية العجوز وجمودية طبقاتها الأرستوقراطية - بخاصة الإنكليزية فيها - وانفتاحية «العالم الجديد» تمثله تلك الأميركية الحسناء التي وجدت عائلة من البورجوازية الإنكليزية نفسها مرغمة على مصاهرتها وحتى على القبول بكونها مطلقة قبل أن تقترن بابن العائلة الشاب جون. > ربما يكون في إمكاننا اعتبار الشخصيات هنا رمزية في شكل أو في آخر، انطلاقاً مما تقدم، لكن قوة كوارد كمنت في أنه أعطاها سمات شخصية تتجاوز رمزيتها، وربما يعود ذلك إلى كونه كتب المسرحية ونقلها إلى الخشبة النيويوركية فيما كان مقيماً في الولايات المتحدة، ما حرره كما يبدو، من ربقة الضغط المحلي عليه. غير أنه لم ينجه في الوقت ذاته من قوارص الأميركيين أنفسهم الذين لم يستسغ كثر منهم تلك الصورة التي قدمها لامرأة أميركية ذات ماض سينكشف في سياق فصول المسرحية الثلاثة. ولاريتا التي غزت بثقافتها وحريتها وجمالها دارة الأسرة الإنكليزية المنطوية على أخلاقياتها القديمة المغلّفة في الوقت ذاته لقدر كبير من النفاق ولتفكك عائلي يكمنان في أعماق حياة يومية متكونة من المخاوف وتراجع الثروة المشتركة، إيذاناً بانهيار طبقي مريع، لاريتا هذه حتى وإن كانت تحب زوجها الشاب جون حقاً وتخلص له وتريد حقاً أن تعيش حياته، سرعان ما تكتشف أنها غير مرحّب بها إلا من الخدم والكولونيل، والد جون الصموت والساخر والعائد ناجياً وحيداً من حرب قتلت كل جنوده، وأخيراً من سارة رفيقة جون في صباه، والتي كان يفترض أن تكون امرأته. وفيما عدا هذا، قد يكون الرجال هنا معجبين بلاريتا، لكنه إعجاب الاشتهاء الصامت. في المقابل، لن تتباطأ والدة جون وأختاه عن مناصبة لاريتا العداء وصولاً بعد وصولها بفترة قليلة إلى التحري عن ماضيها في ديترويت لاكتشاف أن زوجها الأول لم يمت منتحراً وإنما بسمّ اتهمت لاريتا بتجريعه إياه. > سيكون هذا الاكتشاف الضربة القاضية لعلاقة لاريتا بجون وسبب مغادرتها حياته والمكان، لكنها ستكون ما سيحررها من ذلك الصراع البائس الذي صار يومياً في حياتها، وسيحرر في طريقه الكولونيل الأب الذي بعد مشهد رائع يلي «افتضاح» ماضي لاريتا، ويحل هو في الرقص معها بديلاً من ابنه الذي يرفض مراقصتها، سيرافقها في سيارتها الصغيرة التي تغادر بها المكان غير آسفة، حيث لا تجد في وداعها غير... الخادم. > هذه هي في اختصار تلك المسرحية التي كتبها كوارد عام 1924، وقُدّمت في نيويورك وتحديداً في برودواي، حيث لقيت نجاحاً كبيراً دفع ألفريد هتشكوك، كما أشرنا، إلى «إعادتها» إلى بريطانيا في ذلك الفيلم الذي لن يكون آخر اقتباس سينمائي لها، حيث نعرف أن الإنكليزي ستيفن إليوت عاد وحوّلها أيضاً فيلماً رائعاً في أجوائه وحواراته والتعمق السيكولوجي في شخصياته، في عام 2008. ولعل ما يجدر التوقف عنده هنا هو أن كلاً من المخرجين أعطــــى نفسه حرية تصرف كاملة في اقتباس العمل، حيث إن هتشكوك خصص نحو نصف زمن فيلمه لمتابعـــة إقامة جون ولاريتا في كان بالجنوب الفرنسي، وهو أمر لا يهم كثيراً في سياق العمل، فيما أحدث إليوت قلبة أساسية تتعلق بموت زوج لاريتا موتاً صار مرتبطاً، وإن في شكل غير واضح بمسألة «الموت الرحيم». من هنا، من الواضح ان الاقتباس الحديث قد حمّل مسرحية نويل كوارد بعداً إضافياً لا يقل أهمية عن أبعادها الأصلية. لكنه أضاف إلى فكرانية أعماله بعداً ما كان من شأن كوارد أن يتعرف فيه إلى أسلوبه أو مواضيعه، ناهيك بأن عنصر السخرية المرة والكلام الملغّز الذي اشتهر به كوارد، لم يبدُ واضحاً في الاقتباس الذي حول بعداً ساخراً تهكمياً كان يريد كوارد له أن يكون سهاماً توجه إلى الأرستوقراطية الإنكليزية، إلى نوع من نعي درامي لها. > خلال النصف الأول من القرن العشرين كان نويل كوارد الأكثر شهرة بين كتّاب المسرح الإنكليزي وممثليه، واشتهرت أعماله بسخريتها اللاذعة من الحذلقة الاجتماعية البريطانية، كما اشتهرت له أعمال موسيقية ألّفها، غير أنه لم يكن كموسيقي على قوته ككاتب مسرحي. > بدأ كوارد حياته الفنية وهو في الثانية عشرة من عمره، حيث صار ممثلاً محترفاً، وكان ذلك في عام 1911، وهو بدأ كتابة المسرحيات وكان بعد في السادسة عشرة، غير أن مسرحياته الأولى لم تؤخذ مأخذ الجدية، حتى عام 1920 حين كتب مسرحية لفتت إليه الأنظار بعض الشيء بعنوان «سوف أترك الأمر لك». بيد أن شهرته الحقيقية ككاتب لم تبدأ إلا في عام 1924 حين كتب وهو في الخامسة والعشرين من عمره مسرحية «فورتكس» التي عرضتها إحدى الفرق اللندنية وحققت نجاحاً كبيراً ليتبعها في نيويورك بـ «فضيلة سهلة». وفي العام التالي، قيض لمسرحية أخرى له هي «مرحى أيتها الحمى!» أن تعرض في نيويورك ثم في لندن، ما جعل شهرته تتحول شهرة عالمية. ولسوف تكون هذه المسرحية الأولى بين مسرحيات هزلية ساخرة كثيرة كتبها طوال حياته، كان من أبرزها في نهاية سنوات العشرين المسرحية الموسيقية «الحلو الأمرّ» التي حظيت بإقبال جماهيري واسع. > مذ تلك اللحظة، لم يعد نويل كوارد في حاجة لأن يعرّف نفسه، ككاتب أولاً وكممثل بعد ذلك وكموسيقي في المكانة الثالثة. صار علماً من أعلام المسرح البريطاني. وصار في إمكانه أن ينتقل بالكتابة إلى مجال آخر، فمن ناحية نراه يخفف من الطابع الهزلي والشعبي لمسرحياته، ومن الناحية الثانية نراه يقدم على كتابة القصة القصيرة وغيرها من فنون الأدب. وكان كل ما يفعله في تلك الآونة مقبولاً. هكذا مثلاً، نراه يكتب عملاً جريئاً بعنوان «شلال» يتابع فيه مسار عائلة بريطانية بدءاً من حرب البوير في جنوب أفريقيا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. وكذلك كتب مجموعة من مسرحيات الفصل الواحد، ثنائية البطولة، كان يقدمها شراكة مع الممثلة جرترود لورانس، بعنوان «الليلة عند الثامنة والنصف» 1936. ولم يفت نويل كوارد أن يتوجه بعنايته إلى الفن السابع الذي كان ذا سمات فنية رقيقة المستوى في بريطانيا في تلك الحقبة، فهو، مثلاً الذي كتب قصة وسيناريو فيلم «اللقاء العابر» 1964 الذي يعتبر واحداً من أجمل كلاسيكيات السينما العاطفية الأنغلوساكسونية في الإخراج الذي قام به دافيد لين، كما أن عدداً من مسرحياته وكوميدياته الموسيقية حُوّل أفلاماً سينمائية ناجحة، لعب هو أدواراً أساسية في عدد كبير منها، ومن بينها «روح بلايت» التي حولت فيلماً بالعنوان نفسه عام 1945، ثم إلى فيلم موسيقي بعنوان «معنويات عالية» في عام 1964. > وطوال العقود الثلاثة الأخيرة من حياته، لم يتوقف نويل كوارد عن الكتابة، ونشر الكثير من مجموعات القصص القصيرة، كما نشر سيرة حياته في ثلاثة أجزاء بين عامي 1937 و1973، وكان عند رحيله عام 1973، عازماً على استكمال الجزء الثالث لكنه لم يفعل. > في عام 1970، منحت ملكة إنكلترا نويل كوارد لقب «سير»، في الوقت الذي كان يمضي جل وقته بين جزر بحر الكاريبي وسويسرا. وهو حين مات يوم 26 آذار (مارس) من عام 1973، كان يعيش في جزيرة جامايكا. وكان مناوئوه يأخذون عليه كونه خلال الفترة الأخيرة من حياته صار جزءاً من المجتمع المخملي الذي أمضى حياته كلها ينتقده في كتاباته. alariss@alhayat.com
مشاركة :