بين الحين والآخر تطفو على الساحة نتوءات أفرزتها ممارسات أخلاقية لأشخاص يعدون مؤثرين في أواسط المجتمع، أو هكذا تعتبرهم شريحة معينة من المجتمع ما زالت تتمسك في الاحتفاظ بجماهيرية لا يستهان بها لدى هؤلاء، وحجتهم الأخلاقية دائما ما تلتصق بالاستقلال بالذات وتمثيلها وعدم إلحاق هذه الأخلاقيات بالجماعة من منظور (الأنا الفردية)، هذه النتوءات تشبه إلى حد كبير بعض الممارسات الأخلاقية لدى السياسيين كذلك، لكنها تختلف في حجتها، فالسياسي ليس مستقلا بذاته ليمثلها وحدها فحسب، بل هو من يشكل أخلاقيات المجتمع ويضع خطا فاصلا بين السلوكيات الأخلاقية وغير الأخلاقية لمجتمعه نظير ما يتمتع به من سلطات وما يقره من قوانين وأنظمة، أي إنه هو من يصوغ (الأنا الجماعية).وسواء أكانت هذه الأخلاقيات على مستوى الخطاب أم الممارسات؛ فإن التراجع الأخلاقي صار ظاهرة تقتضي طرح سؤال الأخلاق من جديد والتنقيب في جذوره ومآلاته من المفكرين والباحثين، ومحاولة توضيح مفاهيم عديدة مرتبطة به مثل الصالح والفاسد والحق والواجب في ضوء قيم الحرية والعدالة والمسؤولية، كما أن هناك أيضا دوافع أخرى لطرح سؤال الأخلاق تتمثل في الاتفاق على العديد من المفاهيم الأخلاقية في مقابل التباين في تطبيقها، فمثلا لا يمكن تصور أن هناك شخصا يرى في القتل أو السرقة عملا أخلاقيا، كما لا يمكن تصور أن هناك من لا يرغب بالعدالة أو الرحمة ويشعر بأن تطبيقهما غير أخلاقي، والمفارقة أن هناك دائما من يبرر السلوكيات التي تخالف القيم الأخلاقية، ما يعكس نوعا آخر من التراجع الأخلاقي ليظهر هنا سؤال قديم جديد عن معيار الأخلاق ونسبيتها.وبطبيعة الحال عندما نرغب في وضع معيار صلب علينا الاستناد إلى مرجعية قوية تحمي معاييرنا في أي وقت من الامتحانات والاهتزازات التي تتعرض لها، ومعظم الأفكار المطروحة في الفلسفة العربية والغربية تجادل على أن المرجعية الأخلاقية إما أن تكون مرجعية دينية، مثلما ذهب الفيلسوف توماس ألكويني وأبو حامد الغزالي والمفكر المغربي طه عبدالرحمن، أو أن تكون عقلانية كما يؤكد على ذلك الفيلسوفان توماس هوبز وإيمانويل كانط، وهنا يمكن القول بأن الادعاء بمرجعية الأخلاق الدينية هو ادعاء للبحث عن الفضيلة والسمو بالروح، في حين أن ادعاء المرجعية العقلانية هو ادعاء نفعي يحقق للفرد السعادة الفردية بأثر رجعي، والتي تحقق في مجموعها الفائدة للمجتمع بشكل عام، وهاتان نظريتان يصعب تعميمهما على كافة المجتمعات، خاصة وأن المنفعة تواجه نقدا جديرا بالاهتمام يتمثل في عدم ضمانها تجاهلها للعدالة.ولا يفوتني وأنا أدعو إلى طرح سؤال الأخلاق أن أتساءل عن إمكانية النظر إلى المرجعية الأخلاقية كظاهرة اجتماعية مستقلة يمكنها النشوء والتطور من تلقاء ذاتها، فالرسول الكريم بعث ليتمم مكارم الأخلاق التي سبقت تاريخيا ديننا الحنيف، بما يعني أن الأخلاق هي نتاج تفاعلات المجتمع نفسه حالها كحال اللغة مثلا، والأمثلة على ذلك كثيرة، فتجارة الرقيق في القرن التاسع عشر كانت عملا أخلاقيا في معظم رقع الأرض، كذلك كان إنكار المنكر بالقوة القسرية عملا أخلاقيا غير مستهجن في مجتمعنا حتى وقت قريب، والمهم هو أن نتوصل إلى أخلاقيات غير نسبية تحقق لنا الفضيلة والمنفعة معا.@9oba_91
مشاركة :