"أمة تجهل تاريخها لن تحسن صياغة مستقبلها" مقولة الفيلسوف الأميركي "جورج سانتيانا" التي تلخص إلى حد كبير الواقع التعيس الذي نعيشه اليوم، تلقفها منتخبو مدينتنا التعيسة ليُوظفوها ليس بهدف تعريفنا بتاريخنا المشرف، ولكن بهدف ضمان بقائهم جاثمين على صدورنا عبر عزلنا عن كل ما يمتّ بصلة لتاريخنا المشرف؛ ليقينهم أن صياغتنا لمستقبلنا وتحكمنا فيه سيقود حتماً إلى التخلص منهم ورميهم في مزبلة التاريخ المكان اللائق بهم، فاختاروا إلهاءنا عبر استيراد المطاعم والماركات الأميركية بدل تثقيفنا وتنويرنا بتلك الحكمة الأميركية! لم يُجرم مَن يفترض أنهم منتخبونا في حقنا عبر منعنا من ولوج الفضاءات العمومية عن طريق غلق الساحة الواقعة بجوار أحياء شعبية مكتظة، ساكنتها في أمَسّ الحاجة لها فقط، ولكن نجحوا أيضاً في ارتكاب جريمة أشنع وأكبر تمثلت في التهييء لفصلنا عن ذاكرتنا الجمعية المتمثلة في أهم المحطات التاريخية المهمة عبر منعنا من ولوج فضاء عام يحمل اسم ملحمة تاريخية خاضها آباؤنا وأجدادنا، فلم يعد يمثل اسم "الدشيرة" في مخيلتنا سوى ذلك البناء الإسمنتي الشاهق الذي يعترض طريقنا فنضطر إلى المرور بجواره دون التجرؤ على استكشاف ما بداخله. بطبيعة الحال شخصياً مثل الكثيرين غيري قلما كنت أفكر في أبطال معركة الدشيرة -رحمهم الله- حين كان يقف النصب المخلد لذكراهم بشكل محتشم وسط الساحة، بالكاد يظهر للعيان، خاصة بعد محاصرته بصالات المقاهي المشيدة في جنباته، وبالسور المحاصر له بإحكام والأشجار المحيطة به. لكننا الآن لن نجد ما سنترحم عليه، فقد استحالت الساحة منشأة غريبة عن واقعنا وعن هويتنا، بعد أن افتتح فيها فرع مطعم "ماكدونالد" بمدينة العيون؛ حيث يبدو أكبر بكثير من النصب التذكاري "الخجول" المخلد لمعركة الدشيرة التاريخية، فأعمدة الخرسانة الخاصة ببناء فرع الشركة الأميركية تصل إلى أمتار في عمق الأرض؛ لتنافس ذكرى المعركة الضاربة في عمق التاريخ وتزيلها من وسط الساحة، ضاربة بحمولتها ورمزيتها التاريخيتين عرض الحائط الإسمنتي المشيد! ﻻ أظن أن المجاهدين الأبطال -الذين ارتقوا شهداء في تلك المعركة- كانوا سيتقدمون صفوف المقاومة ويقدمون على مواجهة جيش الاستعمار صبيحة تلك الملحمة التاريخية، لو علموا أن النصب المخلد لذكراهم سيستحيل إلى مطعم أجنبي بموجب صفقة رخيصة دون أن يعترض أبناء الوطن الذي ضحّوا لأجله على الإهانة الكبيرة التي لحقت بهم! ما يزيد الطين بلّة وينكأ جراح المجاهدين -رحمهم الله- من جديد هو أن مهندسي تلك الصفقات التي تم بيع ذكرى المجاهدين الأبطال بموجبها هم منتخبون بمجلس المدينة، ويفترض أنهم ممثلون للشعب الذي ضحّى لأجله المجاهدون الأبطال بدمائهم وأرواحهم. كما أن صفقة "ماكدونالدز" المذلة لم تكن الإهانة الأولى التي تلحق بذاكرة المنطقة وبأبطال معركة "الدشيرة" ممثلين في النصب التذكاري المخلد لهم، فمنذ سنوات تم تمرير الساحة نفسها إلى أحد أصحاب الحظوة ممن يُفترض أنهم من ممثلي الشعب؛ ليقيم فيها مقهى يحمل اسماً إسبانياً، وكأن منتخبينا يصرون على إهانة الآباء المقاومين وإغاظتهم وهم في مثواهم الأخير بمختلف السبل، وكأنهم يقولون لهم: "سنخلد اﻻستعمار الذي ارتقيتم شهداء على يديه بدل أن نخلد ذكراكم"! على العموم قريباً سيترحم عمال ومالكو المطاعم الشعبية وأصحاب عربات "الكاسكروطات" الموجودون في محيط الساحة أيضاً على الأيام التي كانوا فيها يحصلون أرزاقهم، فلن يستطيعوا منافسة الوافد الأجنبي الجديد الذي سيبتلع زبناءهم المبهورين بالماركة العالمية وبالصرح الضخم الجاري تشييده بعين المكان. على أي من حق "كروش الحرام" أن يحتفلوا بنصرهم على تاريخ المنطقة وعلينا جميعاً مجاهدين، باعة "الكسكروطات"، مصوّتين وزبناء، وعلى الوطن وعلى الذاكرة الجمعية أيضاً، من حقهم أن يخلدوا معركتهم المتمثلة في سيطرتهم على مقدرات الوطن وهيمنتهم على المال العام والتحكم فيه وتسخيره لمصالحهم الخاصة، من حقهم أن يقيموا صرح "ماكدونالد" ليذكرونا نحن أيضا بانتصارهم علينا، وبسرقتهم لوطننا وتحكمهم في مستقبلنا، وبضحكهم على ذقوننا عبر تحويلنا إلى زبناء أسخياء سنتزاحم على مطاعمهم، ومن حقهم أن يخلدوا ذكرى "راي كروك" مؤسس شركة ماكدونالد بإقامة صرحه العظيم على أنقاض النصب التذكاري الخاص بمعركة الدشيرة! ففي النهاية نحن مَن سلّمنا لهم رقابنا وانتخبناهم وبوأناهم تلك المكانة مقابل سعر زهيد أو تحقيق أغراض شخصية ضيقة أو سماع وعود كاذبة، فحتى أصحاب الشركات الأمنية الذين ألف لصوص المال العام استمالتهم عبر صفقات حراسة الساحات العمومية لن يستفيدوا هذه المرة، فالوافد الأجنبي الجديد لم يألف تقاسم رغيف الخبز مع غيره فوجبة "الهامبرغر" لا تقبل القسمة. أما شهداء معركة الدشيرة التاريخية فلا أدري ما موقفهم وهم يشاهدون قوائم أسمائهم التي يفترض أن تكون معلقة على النصب التذكاري تستبدل بـ"المينو" الخاص بالوجبات السريعة التي تقدمها الشركة الأميركية لأبنائهم وأحفادهم، فكأني بزبناء شركة المطاعم الأميركية يلتهمون آباءهم المخلّدين في قوائم المطعم. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :