مصدر الصورةEPA/ABEDIN TAHERKENAREHImage caption أحد الميادين بشارع "ولي عصر"بالعاصمة الإيرانية طهران بعد انتهاء الاحتجاجات الأخيرة المناوئة للنظام وسياساته. يروي مراسل "فاينانشال تايمز" الذي عمل في طهران منتصف السبعينيات روبرت غراهام في كتاب "إيران: أوهام القوة"٬ أن مدراء تنفيذيين في كبريات الشركات العالمية كانوا ينامون في بهو الفندق أو المستشفى أو حتى المسجد٬ انتظارًا لموعد مع مسؤول إيراني للظفر بعقود استثمارية. كان ذلك بُعيد ارتفاع أسعار النفط بشكل دراماتيكي أواخر ١٩٧٣ وأوائل ١٩٧٤، إثر دفع "أوبك" في الاتجاه ذاك٬ ثم استخدام الدول العربية نفطها سلاحًا للضغط على داعمي إسرائيل تزامنًا مع "حرب أكتوبر" (يومها تضاعف سعر النفط أربع مرات خلال بضعة أشهر٬ وزادت معها أرباح إيران السنوية لذاك العام من ٥ مليارات إلى ١٩ مليار دولار٬ بحسب التقرير السنوي الصادر عن مصرفها المركزي). بدا الشاه محمد رضا بهلوي واثقًا حينها من قدرته على استثمار الأموال المتدفقة٬ بغرض توطيد سلطته وتجديدها لسنوات مديدة دون منازع. وقد استند في ثقته تلك على نمو أجهزة الدولة البيروقراطية والأمنية٬ تحديدًا جهاز استخبارات "السافاك" ذائع الصيت٬ فضلًا عن ورود أرقام اقتصادية مُذهلة. فبين ١٩٥٩ و١٩٧٢ بلغ معدل النمو الاقتصادي في البلاد ٩٫٨ ٪٬ ووصلت الحال بالشاه إلى التفاخر بأن حجم اقتصاد بلاده سيتخطى حجم اقتصاد كل من ألمانيا وفرنسا مع نهاية القرن العشرين. غير أن النمو الاقتصادي الاستثنائي ذاك لم يكن يشمل القطاعات غير النفطية٬ مع بعض الاستثناءات المحدودة في الزراعة والحرفيات وصناعة السجاد٬ كما رافقه فساد ضخم ظاهر للعيان (قدرّ البعض مثلًا تكلفة احتفالات برسيبوليس أو "مدينة الفرس" عام ١٩٧١ بمناسبة مرور ٢٥٠٠ عام على "تأسيس الامبراطورية الفارسية" بـ٣٠٠ مليون دولار). ومع مرور الوقت٬ ظهر فشل "الثورة البيضاء" التي أطلقها الشاه في الستينيات في تحقيق غاياتها٬ وأنتجت سياساتها القاضية بإعادة توزيع الأراضي هجرة ضخمة من الأرياف إلى المدن لم تتمكن الأخيرة من استيعابها. أما طفرة ١٩٧٣ فلم تستمر سوى لعامين٬ عادت بعدها كفة المدفوعات لتتفوق على كفة المداخيل في الميزان. هكذا بدت وعود النظام٬ مع الارتجال وفوضى التخطيط والفساد البالغ٬ أكبر من قدرة الواقع على ابتلاعها. ثم ما إن فتح الشاه نافذة صغيرة للتعبير السياسي أواخر السبعينيات٬ حتى تدحرجت الأحداث متسارعة٬ وأوقعته نهائياً عن عرشه.اقتصاد الشاه واقتصاد "الثورة"مصدر الصورةEPA/OMER MESSINGERImage caption علم إيران خلال فترة الشاه محمد رضا بهلوي قبل قيام الثورة الإسلامية عام 1979. رفعه متظاهرون إيرانيون في ألمانيا تضامنا مع التظاهرات الأخيرة. في كتاب "الاقتصاد السياسي لإيران منذ الثورة"٬ تقول سوزان مالوني التي عملت مستشارة في وزارة الخارجية الأميركية حول قضايا تخص إيران٬ إن ديناميات الاقتصاد السياسي الإيراني لطالما لعبت دورًا مركزيًا في نمو تجربة ما بعد الثورة وما قبلها. في المبدأ٬ كانت معظم معارك الشاه مع معارضيه٬ حتى إسقاطه٬ ذات بُعدٍ اقتصادي واضح. فهو خاض أولاها في الأربعينيات من بوابة الاقتصاد السياسي٬ إثر ولادة دولتي أذربيجان وكردستان الاشتراكيتين شمال البلاد٬ ثم انهيارهما سريعًا بعد توافق طهران مع موسكو الداعمة لهما على حصة لها في النفط الإيراني. وواجه في ثاني معاركه في الخمسينيات٬ بدعم خارجي٬ رئيس الحكومة محمد مصدق إثر تصديق الأخير على قانون تأميم النفط٬ الذي تلاه حصارٌ لصادرات إيران النفطية٬ وتحطمٌ للتحالف السياسي الذي يقوده مصدق٬ وانقلابٌ عليه من طبقة تجار "البازار" والحركة العمالية التي سبق أن أيّدته (لم يكلف تمويل الاحتجاجات ضد مصدق بعد حصار إيران سوى ٢٨٥ ألف دولار تقاسمتها واشنطن ولندن وقتها بالتساوي). أما ثالث المعارك فتواجه فيها الشاه مع التيار الديني في الستينيات معتمدًا على مساعدات واشنطن السنوية (التي وصلت عام ١٩٥٤ إلى حد تغطية ٦٠٪ من ميزانية إيران)٬ ونجح من خلالها في إبعاد الخميني المحتج على "الثورة البيضاء" والخطط الخمسية التي أطلقها بهدف إعادة هيكلة الاقتصاد٬ قبل أن يقتص من قادة حركة "مجاهدي خلق" المعارضة الناشئة. أثرُ العامل الاقتصادي على نمو النزعة الاحتجاجية ضد الحكومة لم يكُن محصورًا بزمن الشاه٬ بل ظهر أيضًا في إيران خلال الأسابيع الماضية بشكل واضح٬ وتطورت معه بعض الشعارات٬ ولو بشكل محدود٬ لتستهدف رموز النظام. وبرغم الفارق بين النموذجين والتفاوت بين موازين قواهما الداخلية٬ فقد بدت وعود ما بعد رفع الحظر عن إيران إثر اتفاقها النووي٬ أشبه بفقاعة ١٩٧٣ التي ظنها الشاه ضمانة حاسمة لصالحه. فقبل عامين بالتمام٬ كان حاكم المصرف المركزي الإيراني يتوقع أن تكون طهران قادرة على اجتذاب ٥٠ مليار دولار من الاستثمارات سنويًا بعد رفع العقوبات٬ بينما لم يأتِ من الاستثمارات تلك في واقع الأمر في العام التالي سوى ٣٫٤ مليار دولار٬ وذلك بسبب جملة من العوامل٬ بينها اهتزاز الثقة بمفاعيل الاتفاق النووي الناجم عن تصعيد الرئيس الأميركي ضد طهران وتلويحه بفرض عقوبات جديدة عليها في هذا السياق٬ على سبيل المثال٬ وقّعت شركة "توتال" الفرنسية عقدًا للاستثمار في الغاز الإيراني بقيمة ٥ مليارات دولار في حزيران/يونيو الماضي٬ لكن تنفيذ العقد جُمّد إثر تصعيد واشنطن الأخير٬ فيما أحجمت شركات أخرى عن الإقدام على مغامرة غير محسوبة النتائج٬ وفي ذاكرتها ما زالت ماثلة تجربة مصرف "بي إن بي باريبا"٬ الذي غُرّم عام ٢٠١٤ مبلغًا قياسيًا قدره ٨٫٩ مليار دولار لخرقه الحصار الأميركي على إيران وكوبا والسودان. لذلك فإن التعويل على مردود استثنائي سريع لصادرات النفط الإيرانية لم يبدُ واقعيًا بعد رفع الحصار. إذ إن البنى التحتية للقطاع النفطي تحتاج إلى صيانة أو تجديد٬ وهذا بدوره يستوجب استثمارات خارجية أكبر. وقد خلص تقرير صادر عن "تشاثام هاوس"عام ٢٠١٥ إلى أن عودة الحيوية إلى قطاع النفط ليست معلّقة فقط على رفع الإنتاج٬ بل أيضًا على ولوج أسواق خسرتها إيران نتيجة سنوات الحصار٬ وهو ما يعني اضطرارها إلى عرض إنتاجها بأسعار تشجيعية مخفّضة. كذلك يمكن القول إن توقعات "صندوق النقد الدولي" ببلوغ النمو الاقتصادي الإيراني ٤٫٢ ٪ للعام ٢٠١٨ (بعدما كان في حالة انكماش قبل خمس سنوات) لا تعني أن طهران تجاوزت المرحلة الصعبة تمامًا. إذ إن معظم هذا النمو ـ كما يفيد التقرير ـ ناتج عن ازدياد صادرات البترول٬ فيما قطاعات اقتصادية كبرى ما زالت في حالة تعثر تعجز معه عن استيعاب اليد العاملة الماهرة٬ لدرجة دفعت وزير العلوم الإيراني إلى التحسّر قبل أقل من ٤ أعوام على "رحيل ١٥٠ ألف متعلم إيراني سنويًا إلى خارج البلاد".ازدواجية السلطة والثورةمصدر الصورةBBC/Amber TelevisionImage caption الشاه محمد رضا بهلوي. تشرح الأستاذة المحاضرة في جامعة "كيمبردج" إيفاليلا بيرزاران٬ في كتاب "كفاح إيران لتحقيق الاستقلال الاقتصادي"٬ أن دولة ما بعد الشاه "دعمت الملكية الخاصة لكنها قيّدت رأسمالية الاقتصاد" (بما يضمن دعم طبقة تجار "البازار" لها). وتضيف أن معظم أعضاء هيئة صياغة الدستور بُعيد الثورة كانوا مهتمين بتأمين الاستقلال الاقتصادي لبلادهم٬ أكثر من اهتمامهم بتجنب عزلها اقتصاديًا. وقد ترسّخ هذا الاتجاه في عهد حكومة مير حسين موسوي التي تولّت السلطة في نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٨١ ممثِلة جناح الثورة الديني٬ بعد إقصاء خصومها الممثَلين بالدرجة الأساس برئيس الجمهورية الأول أبو الحسن بني صدر وحلفائه في "مجاهدي خلق" من جهة٬ وحزب "تودة" اليساري من جهة أخرى. هكذا هدف الدستور الأول بعد الثورة إلى تحقيق قدر كبير من الاستقلال السياسي٬ فنصت المادة ٤٣ منه مثلًا على وجوب "منع الهيمنة الأجنبية على اقتصاد البلاد"٬ فيما قضت المادة ٤٤ بملكية الدولة للصناعات الثقيلة والموارد الطبيعية٬ وقطاعات المصارف والتأمين وتوليد الكهرباء٬ فضلًا عن إدارة السدود والإعلام والاتصال والملاحة والطرق والسكك الحديدية. وقد ظل الوضع على حاله حتى انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية٬ حيث برزت الحاجة إلى تعديل نظرة "الثورة" إلى الاقتصاد والعالم٬ وتنظيم الانتقال من مرحلة الحرب إلى ما بعدها. فكان أن ترأس الجمهورية هاشمي رفسنجاني المعروف بتمثيله مصالح "البازار"٬ كتعبير عن الوجهة المستجدة٬ جامعًا صلاحيات رئيس الحكومة إليه (بعد إلغاء المنصب)٬ وضامًا في أولى حكوماته عددًا معتبرًا من التكنوقراط٬ خصوصًا من خريجي الجامعات الأجنبية. ثم بعد ولايتين لرفسنجاني جاء دور خطاب انفتاح "إصلاحي" أكثر صراحة مثله الرئيس محمد خاتمي لولايتين أيضًا٬ تلته سياسة تحدٍ للغرب وواشنطن زمن "المحافظين الجدد"٬ متحّسسة من الانفتاح الاقتصادي ومن التفريط بمكتسبات الدولة٬ داخليًا وخارجيًا٬ جسّدها أحمدي نجاد. على المنوال هذا تحوّلت العلاقة بين السلطة والاقتصاد في إيران٬ ممثَلة بالشاه أولًا وبـ"الثورة" بعده. المؤكد اليوم أن طهران تحاول تطويع الاقتصاد٬ بما يتلاءم مع مسعاها لإدامة التحكم بمواردها النفطية والغازية وقطاعاتها الإنتاجية الكبرى٬ وبغرض تثبيت موقعها المتقدم في المنطقة تحت مظلة الأجهزة الدينية والعسكرية التي تمت مأسستها بعد رحيل الشاه. لكن الاقتصاد٬ الذي لا يمكن عزله عن تفاعلات "المجتمع الدولي" مع طهران٬ ما زال يُعاند هذا المسار. المؤكد أيضًا أن تحدي السنوات المقبلة يتمثل بتنظيم الانتقال من مرحلة الحصار إلى ما بعدها٬ وهذا يستوجب إعادة نظر في المقاربات المستخدمة لإدارة ازدواجية "السلطة" و"الثورة"٬ تتجاوز بحجمها كل ما سبقها٬ منذ قلب نظام الشاه قبل ٣٩ عامًا.
مشاركة :