في الوقت الذي كنت أفترش فيه العشب أنا وعايدة لجمع ثمار شجرة التوت الوارفة في حديقة المنزل، اجتمعوا على تسميتي توتة. كنت أضع أبي تحت مجهر الطفولة العفوي، كما يفعل الأطفال بالبالغين حولهم، كي يتعلموا بعيون مفتوحة. عينان تشاهدان، وعين تُبصر، وتستخلص الرحيق جاذفة لكل ما تبصره غثاً وراء ظهرها. كانت يده بالمودة والمال دائماً ممدودة. عطفه على العاملين في المنزل، احترامه لمحمد المهري، الذي اعتنى به طفلاً في بيت العائلة الكبير. ظلت غرفته في منزلنا عندما شاب ومرض، وبالرغم من عدم عمله لم يتوقف راتبه. كان يكلم خرّافي النخيل بلهجتهما العراقية، ويمازح البنّائين في منزلنا بما التقطه من كلمات إيرانية. كلما تزوجت إحدى العاملات الهنديات في منزلنا سعى الى عمل زوجها في المنزل أو الشركة كي يكونا معا. كانت عايدة الفتاة المصرية فرداً من الأسرة، كانت تتسوق وتشتري الهدايا وتتنزه معنا بكامل أناقتها في شوارع باريس، وترتاد مطاعمها الفخمة، وعندما كبرت قليلا كان يسعى بقلب أب الى أن تكون عروساً. كان يحرص على معايدة أبناء عبدالقادر السائق العراقي، الذي يوصلنا إلى المدارس كل يوم خلال زيارتهم لنا في العيد، ويدعونا الى النزول من فوق للجلوس معهم. كان يذهب الحارس محمد المهري، والبستانيّ أمير الصعيدي كل يوم لأداء صلواتهما في المسجد، وكانت العاملات المسيحيات يذهبن إلى الكنيسة أسبوعياً لقضاء يوم كامل مع الأصدقاء. كان أبي لا ينقطع عن مشاركتهم فرحة الأعياد، وحثنا على معايدتهم في أعيادهم الدينية. كنت أخرج أحيانا من باب العمارة في القاهرة، فأجده جالساً على الدكّة الخشبية مع البواب منهمكاً في الحديث والممازحة قبل أن يعاتبنا على تأخرنا، رغم أن سيارته مركونة بالجوار، كان ينادي أبي أبو أمين، وكان أبي يناديه عمو صالح إجلالا لسنوات عمره. لم يكن يتوانى عن الجلوس مع الجميع، وكان الجميع يمنح له شأنا هو من فرضه بكرم أخلاقه. شكرا أبي لأنك أفهمتنا أن كل ما كنت تفعله أمور عادية وبديهية يجب أن يسير عليها في هذه الحياة كل الناس. شكرا لأنك لم تكلفنا جهدا كي نتعلم حسن الأخلاق في التعامل والبشر أيا كان وضعهم. شكراً لأنك علمتنا بإنسانيتك أن نبصر الإنسان إنسانا من دون تمييز. شكرا لأنك غرست فينا تقبل واحترام التنوع الديني واختلافه. شكرا لأنك علمتنا من خلال تعاملك في المنزل وعند باب العمارة أن التكبر للصغار فقط، فالكبار كبار لا يتكبرون. شكرا أبي.. لأنك أبي وأنا ابنتك. شيء واحد لا أستطيع شكر قلبك الكبير عليه يا أبي، وهو تعبه الذي أمرضك وتسبب برحيلك باكراً. أسيل عبدالحميد أمين aseel.amin@hotmail.com
مشاركة :