ألا يزال الشاعر القتيل جالسا في إحدى حاناتك وهو يعد أصابعه بحثا عن ثور ضائع ومصارع مسمّر على فرسه في انتظار صيحة الجمهور؟ العرب فاروق يوسف [نُشر في 2018/01/21، العدد: 10876، ص(14)]ليست نيويورك، هي زائر قتيل أنا طائر. أصل طائرا. البحر هناك تحت. ليس البحر وحده تحت. هناك حكايات لم ترو عن سفن لم تصل وسفن لا تزال في الطريق وسفن لم تبن بعد. لم تكن هناك قوارب للموت يومها. كانت القوارب من خشب. كانت القوارب لا تبتعد عن الشواطئ كثيرا. هناك حبل نجاة مشدود بطريقة تمكّن المرء من أن يثق بعائلته التي تجلس في انتظاره على مائدة العشاء. شمعة وحيدة للقراءة. هناك رجل يقرأ وامرأة تتسلّى في النظر من النافذة. المرأة التي تجلس إلى جانبي شقراء تتكلم العربية التي تعلمتها في سنة عيش عميق واحدة بدمشق. “يا مصطفى يا مصطفى” كما لو أنها كانت تنتظر مني أن أصفق حنينا إلى الشام لترقص قبل أن تقلع الطائرة. في الحقل سنونوتان وثلاثة عجول وفرس. من غير حبر أكتب. أحلم ببحيرة من حبر لا يُرى بل يُشمّ مثل رائحة صابون الغار. أحلم بأزهار تطلع برؤوسها من الرّمل. خارج الطائرة تشبه الغيوم أكياسا معبأة بقطن أبيض. يسيل الصمغ على الجذع. الأصابع هناك ترسم وجوها تقلّد أقنعتها. ليست عاصفة. إنها ضحكة امرأة تقبل من الماضي. أطبق عينيّ لأقرأ. هناك كتاب لا يزال مفتوحا. حين تُغلق الكتب تفقد الطيور أجنحتها. سيكون الحلم دافئا مثل أثر رأس على وسادة. ليس ليلا. إنها بئر بسلالم من حرير. انزلق بهدوء إلى تلك البئر. مَن سبقني إلى عتمته يمكن أن يراني. له وجهي وقد انعكس في المياه. “أنت مرآة ألمي” يضحك. “أنت قتيلي إذن” يبكي. يقول “إن ما جرى يمكن أن يقع في أيّ لحظة تغرق فيها الفراشة في محبرة. ليكن الحبر أزرق وليكن مطبخ منزلك هناك في العاصمة البعيدة كوكبه الذي تلصق بزجاج نافذته الفراشة جناحيها وتموت. ليست نيويورك. هي زائر قتيل. ما كان على نبوءة الطفل ذي الوجه الدائري الأبيض أن تحط في صحن الفاكهة. لن أصدق أن يد السماء تقتل. تخبرني المرأة التي تجلس إلى جانبي أن الإقامة في نيويورك تجعل المرء قريبا من السماء. “أنا طائر” تقول لي. ألتفت إليها. أراها بطريقة مختلفة. لم تكن لديها رغبة في الرقص على نغم أغنية رثة. كانت امرأة أخرى. بريطانية تعمل في نيويورك. ابنتي تعمل هناك أيضا. “في شارع المال؟” “لا في مؤسسة فنية”. العرب يجيدون توظيف الأموال. وهم تائهون أيضا. تصمت. ليست الفراشة وحيدة في عتمة الحبر. هناك شعراء ونقابيون ورواد فتنة وعصابيون وقتلى ونساك ومريدو أقاويل وصانعو منمنمات وموسيقيون حفاة ورسامون ليليون ومدخنون وناجون من التهلكة ورواة بمزاج متمرد وصعاليك متأنقون وأئمة من غير أضرحة وعصاة أخذت المياه أقدامهم وتركتهم على الشاطئ. من لندن إلى نيويورك ستخسر خمس ساعات. قبل حوالي تسعين سنة خسر لوركا أياما. بعدها خسر عمره. غرناطتي غرناطة. لقد ألهم نيويورك لحظة فالتة من عمره. الأزرق الذي يحلم والأزرق الذي يجب أن يكون والأزرق الذي هو احتمال وحيد. سأجلس على ضفة نهر هدسون وأبكي. لا يزال في الحقل متسع لسنونوتين وثلاثة عجول وفرس وحيدة. منذ أن أدركت أن الشعر لا ينفع ولكنه ضروري وأنا أكلم العشب كما لو أنه قد تمكن من اللغة قبل أن تستدرج معانيها إلى مسيرات الجنون. لقد التهمت مياه النهر الكثير من الآهات. أبني لك جسرا من التنهدات لكي نعبر معا إلى جزيرة لن يجرحنا فيها أحد. أيها الصديق الذي تعلم من لوركا طريقة النظر إلى الزهور لا يزال في إمكانك أن تنتظرني لنمشي معا المتر الذي لم يصل إليه الشاعر القتيل. أنا مثلك ضحية، غير أنني أمثل مثلك دور القاتل لكي لا يرى الآخرون فضيحتي أنا مكسور مثل كلمة لم يقلها أحد أنا ضائع مثل دمعة لم تذرفها عين أنا شريد مثل نغم يصعب على الكمنجات أن تعزفه.أن يقيم المرء في منزل أرضي ببروكلين فتلك مفاجأة قد لا يتوقعها أحد. ليست هذه نيويورك. كما لو أنني هبطت إلى منزل بحديقة إسمنتية يقع إلى جوار كنيسة ◄أسقط مثل تفاحة الليل هناك. يضم مدينة، نوافذها تطل على العالم وأبوابها موصدة على مرابين ومصرفيين وأباطرة فن وصانعي مصائد ومخترعي ألعاب وراقصين حفاة ومتزحلقين على زئبق مرايا لصورها تأثير ضربات العاصفة ومركبي جمل من هواء وقتلة متأنقين. لا شيء يخلو من الأناقة في مكان لا يوصف. فلا هو واسع ولا هو ضيق. لست وحيدا في ذلك المكان ولكن عزلتي تضيق مثل كيس نوم. كان علي أن أظل نائما إلى أن تدق شمس النهار بابي. وهي شمس تأخرت خمس ساعات. ألست ورقة؟ أنظر إلى كتابي المفتوح وأفكر في الأبواب المفتوحة في مدن كنت قد زرتها في الماضي. ضحكة صديق تطلق عنقود عنب مستعار من عصر الباروك. “سأهبك حذائي لتحلم قدماك أحلامي” يقول لي صديق أممي أبقى الشباك مفتوحا على غرناطة لأن لوركا أوصى بذلك. الحوذي لا يفكر في حذائه بل من خلاله. يضحك صديقي لأن الكأس قد طفحت ولم يعد في الشارع سوى حراس رامبرانت الليليون. “ستركض ولكنك لن تصل” ذلك صديق أصيل. “ضع تفاحتك على الطاولة واتبعني” قال “ولكنني التفاحة وقد سقطت من عليين” أنظر إلى منهاتن. فرصة أن يراها المرء من فوق. أعرف أنني سأكون دائما تحت. قرأت “أليس في بلاد العجائب” مرات عديدة وألهمتني حجوما تعرفت عليها في ما بعد في التيه. أيها الأرنب سأتبعك إلى بلاد غريبة سيكون فيها الشعر زقزقة عصافير صباحية. بثياب العمال الزرقاء سأجد نجمتي وأذهب معها إلى دار السينما. سيُقال ثريّ متنكر. ذلك حقيقي فأنا قادم باعتباري شاعرا يمشي وراء شاعر سبقه. قبل تسعين سنة سبقني لوركا إلى أميركا. كانت هناك أميركا أخرى. ولكن أميركا هي أميركا. الترف والشظف. الغنى والفقر. العدوانية والتآخي. الكرم والسرقة. لن يكون لوركا في انتظاري في مطار جون كنيدي. سأصل نائما مثلما وصلها الشاعر الذي يضع الآن خده على العشب المبتل حالما بليلة مقتله. “لمَ ربطة العنق إذن؟” تقول المضيفة حين سألتها عن سر النهار الذي يرافقنا. نهار خارج الطائرة وليل داخلها. ابتسمتُ من أجل خمس ساعات مضافة إلى العمر. ما الذي يمكن أن يفعله المرء فيها؟ أسقط مثل تفاحة تُرسم من أجل أن تستعيد حياتها في الفن. أرسم خطا بين الجرس ورنينه الذي يضرب العيون. علاقة تذكّر بالقدم وخطوتها التي تترك أثرا على العشب. الناس البريون مرهفو الحواس. ما من نملة تدس أنفها إلا بعد أن تشعر بالخطر. ولأن الشاعر كائن بري فإن الخطر يجذبه، يحيط بحواسه من كل جانب. الشعر مهنة خطرة. السفر كذلك. هناك مَن يسافر لكي يكون غريبا. يضحك الشاعر “ستكون غريبا مثلي” “ولكنني أحمل خرائط ستعينني على أن أتبعك” “لن تجدني لأن خرائطي التي تحملها معك قد مزقتها الجادات والشوارع التي صنعت معجزة مدينة لا تنتمي إلى عالمنا. اِنس أوروبا وآسيا وابدأ صباحك بشمس نيويورك. أيها الساحل حيث ينتهي بحر الظلمات أيها الساحل النابت بوحشته مثل مقبرة أيها الساحل الغارق بالنور ألا يزال الشاعر القتيل جالسا في إحدى حاناتك وهو يعد أصابعه بحثا عن ثور ضائع ومصارع مسمّر على فرسه في انتظار صيحة الجمهور؟ في ذلك الشارع ستكون واحدا من ألف ◄ كأنها منهاتن أن يقيم المرء في منزل أرضي ببروكلين فتلك مفاجأة قد لا يتوقعها أحد. ليست هذه نيويورك. كما لو أنني هبطت إلى منزل بحديقة إسمنتية يقع إلى جوار كنيسة. في الطريق من مطار جون كينيدي كان بريق منهاتن يأتي من الجهة البعيدة اليمنى. عمود من نار يشير إلى برج أمباير ستيت. “أهي هناك دائما؟”، كان المشهد مختلفا بالنسبة إلى لوركا القادم بسفينة. سأؤجل البحث عن الشوارع الخفية التي مشى فيها هنري ميلر. من “مسرول أفنيو” حيث أقيم إلى شارع فرانكلين الذي يتقاطع معه مسافة عشر دقائق. من هناك يمكن رؤية منهاتن لكن من وراء سياج. كان عليّ أن أبحث عن شارع يؤدي إلى ضفة النهر. ما كان من ميلر سوى أن يرفع صوته بالشتائم ويصاب بالإحباط لو أنه رأى تلك المباني الكئيبة التي تسد الطريق. لم أشعر باليأس. الزرقة هناك فيما منهاتن بعيدة عن المكسيك كما هي بعيدة عني. مساء أمس في مطعم مكسيكي كان الحديث يجري بالإسبانية بصوت عال. مَن يكلّم مَن؟ حين اكتشفت أن مَن جلب الماء إلى منضدتنا كان هو الآخر زبونا فهمت جزءا من اللغز الذي يعالجه ذلك السؤال. لا يحتاج المرء إلى أن يكلم نفسه حين يهذي بصوت عال فلا أحد يتابع كل جملة يقولها. ليس من اليسير أن يكون المرء مكسيكيا. هنا الجميع مكسيكيون. الطول نفسه والسحنة نفسها وكان هناك كبير الطباخين الذي يشبه هوغو شافيز وهو الأكثر مكسيكية من الجميع يضحك بطريقة تكشف عن سعادة اللحظة التي تتوقف الملائكة فيها عن الكتابة. يحتاج المرء إلى أن يلتقي مكسيكيا لكي ينسى نيويورك. تذكرت أن هناك مَن قال “المكسيك قريبة من الولايات المتحدة، بعيدة عن الله”. ذلك النوع من الحلول لن يكون نافعا في الشارع السابع من منهاتن. وهو الشارع الذي صار كله تايم سكوير. سلطة العبث نشرت وحوشها. وحش عند كل منعطف ودمية تسخر من نفسها ومن الآخرين. ما من جزيرة تستقبل زائريها بمثل ما تفعل منهاتن. ربما كان علينا أن نفكر بحريتها لا بحريتنا. هناك عنف على الرصيف. ناعم ونظيف غير أن أناقته تكاد تجرح. ليست حجارة. الكلام أثقل من الحجارة. خفيفة العقل منهاتن. يزداد زوارها ظُرفا حين يفقدون عقولهم من أجل أن يتوازنوا. هناك من يبتسم لك كما لو أنه يعدك بالحفاظ على سر مشترك. حفلة مجانين. أعدك بنهار يشبه ليلي لتزورني حاملا شمسك مثل مظلة. أنا قرينك فهل أخطأت الطريق في الغابة؟ في الشارع السابع تبدو الغابة كما لو أنها غابة غير أنها ليست كذلك. تكذب المدينة فلا أحد رآها. تقترب مني فتاة عارية بملابس داخلية رسمت على جسدها. لا شيء من السخرية كما لو أننا في مأتم. لا يلتفت إلينا المارة وما من أحد شعر بالحرج. “هل ترغب في التقاط صورة معي؟”. أهز رأسي مبتسما فتبتعد من غير أن يظهر على وجهها أيّ نوع من التعبير. الإعلانات الضوئية من حولنا تضرب القلوب قبل العيون وما عليك سوى أن تمرّ مثلك مثل الآخرين. ما عليك سوى أن تمر. الصوت والصورة. الرأس والقدم. الكرة والفكرة. هناك همجية تكرّس يأسها من خلال ترف لا يُضاهى وهناك أبجدية الصورة التي صنعت أسطورتها على ركام اللغات. في ذلك الشارع ستكون واحدا من ألف. واحدا من مليون. ما أن تلتفت حتى تفقد مكانك. هناك مَن يحلم بأن يغيب قبلك. ليست منهاتن إذن. لقد شُبّه لي. كأنها منهاتن. لن تطرح مفاتيح البيانو أسئلة على أصابع العزف بعد انتهاء العزف. “أردت أن أحدثك عن بشر ضائعين” “فيما يحلو لي أن أحدثك عن أحلام ضائعة” “وهو الفرق بيننا. منهاتن حلم خربه بشر ضائعون”.لن يكون لوركا في انتظاري في مطار جون كنيدي، سأصل نائما مثلما وصلها الشاعر الذي يضع الآن خده على العشب المبتل حالما بليلة مقتله ◄ قمر لا يفهمه أحد أما أنها كانت مثل الصفر في الخطأ في الحساب فتلك مسألة عاطفية. أو أنها كانت تغرر بي للخروج عاريا تحت المطر فتلك مسألة رياضية. ليس الصفر نفسه دائما غير أنها لم تُخرج من معطفها سوى نهدين مترفين كأن المطر قد استودعهما سره. هناك “قمر لا يفهمه أحد” لوركا لا يمزح. ليس الصفر وليست الغيمة. هناك امرأة تعدك بما لن تفهمه. خيل إليّ أن لوركا، هو نفسه لوركا العربي يجلس على مصطبة من حجر مصقول من غير أن يمد يده إلى جيبه ليخرج أوراقا كان قد كتب عليها قصيدته التي يرثي بها نفسه “إن مت ابق النافذة مفتوحة” “ما من نافذة تُفتح في منهاتن” سأروي لك الحكاية حسب الكتب المقدسة “كانت هناك فتاتان ترومان جلب الماء من البئر. حين رآهما النبي عرض عليهما أن يساعدهما في الحصول على الماء فاشتهته إحداهما. وحين عرف والدهما وكان كبيرا في السن عرض عليه أن يتزوج ابنته”. لو أن أحداث تلك الحكاية وقعت في نيويورك لشيّدت من أجلها مدينة للملاهي. نيويورك هي الأخرى مدينة مقدسة لكن من نوع مختلف. الفتاة العارية التي رأيتها في تايمز سكوير هي واحدة من كاهنات بابل. ربما لا يفكر أحد في نيويورك في القمر. إنه خرافة ريفية تعيدنا إلى بغداد. كان القمر في غرناطة شيئا آخر. لن يفهم العرب إلا قمر ابن زريق البغدادي. “أستودع الله في بغداد لي قمرا/ بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه” ولأن ابن زريق لم يستبدل ليله بنهار فقد كان نائما حين حضرت الملائكة. ولكن لوركا نظر بعينين مستفهمتين إلى الملائكة حين قُتل. عليك أن لا تفكر بوالت ويتمان. نيويورك ليست أميركا. المدينة التي تحتفل بذكرى غزو كريستوف كولومبس لبلاد صار سكانها الأصليون مجرد أشباح يمكن للمرء ن يلتقي واحدا منهم من غير أن يكون مضطرا للوقوف له احتراما. فهو لاجئ. ليس سيئا أن يكون المرء لاجئا بشرط أن لا يصادفه ذلك الحظ السيء على أرضه. “سأحدثك عن الهامشيين. كان أبي واحدا منهم وهو الذي أورثني تلك الصفة” قالت صاحبة المنزل. كان أبوها قد لجأ إلى الولايات المتحدة مع الوجبة الأولى من اللاجئين القادمين من أوروبا بعد صعود النازية. حين قدم أندريه بريتون ذهب إلى استقباله كما لو أنه يستعد للقاء ملك. كان شاعرا سرياليا هو الآخر. “ألا تعجبك السريالية؟” تساءلت بطريقة جادة. “لم أفكر في الموضوع غير أني أكنّ احتراما كبيرا لبريتون شخصيا”. حين عمل أبوها في الاستثمار في مجال العقارات نسي الشعر غير أنه ظل مخلصا لهامشيته. كان لاجئا حتى موته ولم يعلن عن أميركيته. كان بولونيا عتيقا. “ليس لأنه يهودي. بل لأنه شاعر”. في متحف (MOMA PS1) رأيت صباح اليوم معرضا عن حياة لم تُعش إلا بطريقة مجازية.قارة مرفهة ◄ هل كنتَ حيا لكي تُصدم بلحظة موتك؟ “ليس بالضرورة أن تكون قد عشت تلك الحياة لكي تستضيفك بطريقة مجازية” ذلك ما يقوله لك المرشد الفني في متحف (MOMA PS1) ولكنها فكرة صادمة ومروعة. أن يكون هناك شخص يقوم بوظيفة مرشد فني يقف بين المرء وحواسه. ولكن ما الذي يفعله ذلك الشخص الغامض من خلال وظيفته؟ التجربة التي عشتها لم أكن أتخيل وجودها. لا يمكنك أن ترى معرضا وحدك. ليست هذه فرضية بل هي أمر واقع. لقد جمعنا أحد الشباب على هيأة فريق سياحي وتقدمنا نحو الهدف. ولكن الهدف كان وهميا من وجهة نظري التي قد لا تكون صحيحة. في حقيقته فإن ذلك المعرض لم يكن فيه ما يُرى شاخصا لكي يذهب المرء إليه. يحتاج المرء لكي يرى إلى مَن يدله إلى الأعمال الفنية. هناك حفرة في الأرض بقطر سنتمترين على سبيل المثال يُعرض من خلالها فيلم فيديو قصير هو عبارة عن امرأة تقول جملة ما لن تكون مضطرا إلى سماعها. تصلك المعلومة من غير أن تشعر بالحاجة إلى معرفة تفاصيلها. أبنية رثة منسجمة مع فكرة المعرض التي تمجد الهشاشة. تقف أمام العمل الفني ولا تراه. إنه جزء من المكان. غير أن المكان لم يكن صالحا بوضعه الحالي أن يكون موقعا لعرض أعمال فنية. ما من فاصلة بين المكان والأعمال الفنية التي صرنا نهتدي إليها من خلال المرشد الذي كان عبارة عن آلة تسجيل. لقد تم تلقين الشاب ما يقول بحيث أنه كان يبتسم ببلاهة من غير أن يرتبك حين يُسأل. ولكن أن أرى عملا لسول لويت بين تلك الأعمال الغامضة فإنه كان أمرا صادما بالنسبة إليّ. ولكن مهلا. لويت أقام شهرته على أساس هامشيته. كان دائما أميركيا فائضا. لقد جلت بين طبقات متحف ويتني الثماني ولم أعثر على أعمال فنية، يمكن أن يشعر المرء بالسعادة لأنه رآها. ما هذا الـ”إدوارد هوبير” الذي يعتبره الأميركيون رمزا لأصالتهم الفنية؟ سنتمتر من وليام دي كوننغ الهولندي الذي صار أميركيا هو أفضل من كل أعمال هوبير. المشكلة أن لا أحد يصدق أن أميركا بلد هش ثقافيا. ولكنها قارة وهي كذلك فعلا. قارة مرفهة بما تعتقد أنه يناسبها وسيكون مقبولا بالنسبة إلى العالم. ألم تضحك علينا بفن البوب؟ ألم تجعلنا نصدق أن أندي وارهول فنان من طراز رفيع وهو الذي تغنى بالنفايات؟ يشعر المرء بالألم حين يرى أماكن عظيمة تخصص لما يعتقده نوعا من اللعب الصبياني. فهذا الجزء من متحف الفن الحديث في واحدة من أكثر مدن العالم ترويجا للفن لا يمكن أن يكون مسرحا للخواء. لقد مشيت مع الآخرين وراء ذلك المرشد فلم أر عملا فنيا واحدا. كانت هناك جدران تالفة يمكن أن يجدها المرء في كل مكان. لم يكن مناسبا لكي أعبّر عن حقيقة شعوري وهو ما يجري دائما فيبدو كما لو أنه أشبه بشهادة زور. ينبغي أن تظل الكذبة مزدهرة. هذه نيويورك وليست مدينة أخرى. عاصمة الفن وهي للأسف ماكنة الكذب في الوقت نفسه. ينشر المقال بالاتفاق مع "الجديد" الشهرية الثقافية اللندنية
مشاركة :