الدكتور زيفاغو رجلان وهبا الحياة شعرا كثيرا بقلم: فاروق يوسف

  • 11/26/2017
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

زيفاغو منح باسترناك جائزة نوبل للآداب، لكن الأخير لم يكن مستعدا لتسلم الجائزة، بعد أن تم اعتباره عدوا للثورة البلشفية في روسيا التي لم تكن تشعر بالحاجة إلا لصديق أو عدو.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/11/26، العدد: 10824، ص(9)]الدكتور زيفاغو الذي سبق بوريس باسترناك إلى الشهرة لندن - يوري زيفاغو أم بوريس باسترناك؟ كلاهما يستحق النظر بإعجاب فهما قاوما الاستبداد وكلاهما يستحق الشفقة لما تخلل حياتهما من تعاسة كانت السعادة أو لنقل البحث عن السعادة سببها. لقد قاوما حتى الموت متبوعين بنظرات الحسد وماتا في اللحظة التي كان يجب فيها أن يسعدا باعتبارهما مثالين يمكن أن يتغير مصير البشرية من خلالهما. تقاطعت مصائرهما بطريقة لم يخططا لها بعد أن تخيل كل واحد منهما أنه قد أمسك بطرف من الحقيقة التي تعبر عن وجوده. ذهب كل واحد منهما في طريقه بعد أن خذلتهما الحياة التي أفسدتها السياسة. سوء الحظ هو الخط الفاصل عثر زيفاغو على لارا وهي المرأة التي أحبها بعد غيابها في لحظة موته فلم تشعر به ولم تلتفت إليه أما باسترناك فقد كان صيدا سهلا في حرب باردة بين جبارين هما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وكان أصغر من نملة. ربما حسد باسترناك صنيعه زيفاغو على مصيره. وإذا ما كان زيفاغو قد منح باسترناك جائزة نوبل للآداب فإن الأخير لم يكن مستعدا لتسلم الجائزة، بعد أن تم اعتباره عدوّا للثورة البلشفية في روسيا التي لم تكن تشعر بالحاجة إلا لصديق أو عدو. لا زيفاغو ولا باسترناك كانا سياسيين. لم يكونا أصدقاء ولا أعداء. غير أن من سوء حظّهما أن كل شيء من حولهما كان ملغوما بالسياسة. وهو ما حرمهما من أن يقولا كلمتهما الأخيرة. لا الطبيب زيفاغو همس الكلمة الأخيرة في أذن لارا ولا الشاعر باسترناك ألقى كلمته في الاحتفال الملكي الذي أعدته له الأكاديمية السويدية التي منحته الجائزة وتلقت خطاب اعتذاره عن تسلمها. لقد حُرم الاثنان من الحب الذي كانا يحلمان به حين تم مزجهما في معصية ما كانا قد خططا لارتكابها.مصيرا زيفاغو وباسترناك تقاطعا بطريقة لم يخططا لها بعد أن تخيل كل واحد منهما أنه قد أمسك بطرف من الحقيقة التي تعبر عن وجوده. ذهب كل واحد منهما في طريقه بعد أن خذلتهما الحياة التي أفسدتها السياسة الموت على حدود الحب ولد يوري زيفاغو أواخر القرن التاسع عشر وأنهى دراسة الطب أثناء الحرب العالمية الأولى. يومها شهدت روسيا انهيار إمبراطورية آل رومانوف وقيام الدولة الشيوعية. لم يكن زيفاغو مهتما بالأحداث السياسية غير أن التحولات الكبرى بما انطوت عليه من اضطرابات كان لها أكبر الأثر في صياغة مصيره كما مصائر الآخرين وهو ما يسلط الضوء على الدور الذي تلعبه السلطة في تغيير سلوك الأفراد. وإذا ما كان زيفاغو قد تزوّج في سن مبكرة بما يوحي بسعادته فإن ظهور لارا في حياته قد قلب كل المعادلات المستقرة. التقى يوري بتلك الممرضة المتطوعة أثناء خدمته طبيبا في الجيش أثناء الحرب الأولى فربطتهما قصة حب عميق انتهت بنهاية الحرب. عندما وقعت الثورة الروسية عام 1917 لجأ زيفاغو مع عائلة زوجته إلى قرية في الريف الروسي للعيش هناك بعيدا عن الحرب التي دارت رحاها هذه المرة بين طرفين اختلفا على غنائم الثورة هما: البلاشفة والمناشفة. كان يمكن لزيفاغو أن يعيش حياة مستقرة لولا ظهور لارا مرة أخرى وقد جاءت تبحث عن زوجها المفقود وهو ما دفع الطبيب الذي كان يكتب الشعر إلى أن يصمم على الارتباط بلارا تاركا حياته المستقرة.يوري لم يقل الكلمة الأخيرة للمرأة التي أحبها حين داهمه الموت. ولم ير بوريس روايته مطبوعة باللغة الروسية، ذلك لأنها لم تطبع في روسيا إلا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. في الجانب الآخر من حياة لارا كان هناك جنرال صار واحدا من رجال السلطة الجديدة وسبق له أن شغف حبّا بها من غير أن تبادله ذلك الحب. دبر ذلك الجنرال، مدفوعا بمشاعر الغيرة ومستندا إلى قوة السلطة، مكيدة نجحت في وضع نهاية لذلك الحب العظيم من خلال إيهام لارا بالخطر الذي ينطوي عليه وجودها إلى جانب يوري. تختفي لارا من غير أن يفهم يوري شيئا. عام 1922 عاد زيفاكو إلى موسكو ليعيش فقيرا منسيا سنوات قبل أن تحل اللحظة العصيبة التي رأى فيها حبيبته. فبينما هو جالس في إحدى عربات النقل العام نظر من خلال زجاج النافذة فرآها. حاول أن يصرخ باسمها غير أن صوته لم ينجده وحين توقفت العربة هبط وكانت لارا لا تبعد عنه إلا أمتارا قليلة لم يستطع أن يجتازها. لقد فاجأته نوبة قلبية فسقط ميتا على الرصيف ولم تعرف لارا أن حبيبها كان يموت على بعد أمتار منها. من الكيمياء والفلسفة صنع بوريس باسترناك عجينته الشعرية. لقد عاش سبعين سنة (1890-1960) توّجها بنيله جائزة نوبل التي رفضها قبل سنتين من وفاته. ولكنه لم ينل نوبل بسبب أشعاره وهو شاعر في الأساس بل بسبب رواية وحيدة كتبها واعتبرت أهم رواية روسية كُتبت في القرن العشرين. البطل والمجرم في الوقت نفسه ولد باسترناك في أسرة فنية. والده أكاديمي في مجال الفنون ووالدته موسيقية موهوبة وفي شبابه كان من أشد المتحمسين للثورة البلشفية التي وقعت في روسيا مثله في ذلك مثل ابن جيله الشاعر مايكوفسكي الذي انتحر في ما بعد يأسا. “توأم في الغيوم” هو عنوان كتابه الشعري الأول ليتبعه كتابه الثاني “فوق العوائق” غير أن روايته “الدكتور زيفاغو” كانت معجزته ولغز حياته الذي طوق رقبته حتى الموت. صدرت تلك الرواية بالإيطالية في روما عام 1957 وهي الرواية التي استحق بسببها جائزة نوبل.الرواية في حد ذاتها هي عمل أدبي عظيم وهي تعالج المصير البشري في واحدة من أهم لحظات وضوحه غير أن السياسة وهي ثعبان أعمى قد أفسدت كل شيء. ذلك ما صنع من باسترناك بطلا ومجرما في الوقت نفسه. البطل الذي قال الحقيقة والمجرم الذي وشى ببلاده شيء هو من صنع الخيال أن يكتب المرء رواية واحدة فيحصل بسببها على أعظم جائزة في العالم. هذا ما حدث بالضبط للكاتب الذي لم ير في حياته روايته مطبوعة باللغة التي كُتبت بها وهي اللغة الروسية. حين نُشرت الرواية بالإيطالية ومن بعدها بالفرنسية كان ذلك مسوّغا قويا لاتهام باسترناك بموالاة الغرب ولتُشنّ عليه الحملات التي قابلها مضطرا بالصمت. لم يكن أمام باسترناك للدفاع عن نفسه سوى أن يرفض جائزة نوبل. وهو ما فعله. البلشفي القديم صار بمثابة عدوّ ولم يعد يملك الكثير من الأوراق للدفاع عن نفسه. الرواية في حد ذاتها هي عمل أدبي عظيم وهي تعالج المصير البشري في واحدة من أهم لحظات وضوحه غير أن السياسة وهي ثعبان أعمى قد أفسدت كل شيء. ذلك ما صنع من باسترناك بطلا ومجرما في الوقت نفسه. البطل الذي قال الحقيقة والمجرم الذي وشى ببلاده. بين جوليا كريستي التي هي لارا وجيرالدين شابلن التي هي الزوجة، وقف عمر الشريف باعتباره يوري زيفاكو تحت إشراف ديفيد لين المخرج العملاق."توأم في الغيوم" هو كتاب باسترناك الشعري الأول الذي سبق كتابه “فوق العوائق”. غير أن روايته “الدكتور زيفاغو” كانت معجزته ولغز حياته الذي طوق رقبته حتى الموت. عام 1965 أُنتج فيلم “الدكتور زيفاغو” فكان مناسبة لإحياء ذلك العمل الروائي الذي تميز بشعريته الفائضة. لقد تمكّن ديفيد لين من القبض على الفكرة الأساسية التي سعى باسترناك إلى أن يقولها. يغيب الحب في اللحظة التي يكون فيها ممكنا. الحب كالشعر لا يُمسك حين يقيم إلى جوارنا ويتخلل أرواحنا بهوائه. وهو بالضبط ما نقلته موسيقى الفرنسي موريس جار التي أُلفت خصيصا للفيلم. يشعر مَن يستمع إلى تلك الموسيقى بخطى زيفاكو الضائعة في بلد غارقة بالثلج والدسائس. لقد عصفت الحياة بيوري وبوريس معا في حين عصف كل واحد منهما بالآخر. رجلان رقيقان حطمت السياسة بخبث مقاصدها أحلامهما وسلمتهما إلى المصير نفسه. لم يقل يوري الكلمة الأخيرة للمرأة التي أحبّها حين داهمه الموت ولم ير بوريس روايته مطبوعة باللغة الروسية ذلك لأنها لم تطبع في روسيا إلا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ألم يكن مؤلما بالنسبة إلى باسترناك أن يكون بطله الدكتور زيفاكو أكثر شهرة منه؟ لا يزال اسمه مدرجا في قائمة الحائزين على جائزة نوبل بالرغم من أنه حُرم من الحصول عليها. مكافأة ذهبت إلى التاريخ.

مشاركة :