يعتقد القريبون من حزب الله أن الانتخابات النيابية هي الحلقة الأخيرة التي تستكمل تشريع سيطرة سلاح حزب الله على البلد فعليا، لكن الوقائع العنيدة في التاريخ وفي الجغرافيا وفي الاجتماع اللبناني نفسه تقول غير ذلك.العرب علي الأمين [نُشر في 2018/01/23، العدد: 10878، ص(9)] من المقرر أن تجري الانتخابات النيابية في لبنان مطلع شهر مايو المقبل، وهو استحقاق انتخابي جرى تأجيله والتمديد للمجلس الحالي مرتين، فهذه الانتخابات كان مقررا إجراؤها في العام 2013 باعتبار أن الانتخابات الأخيرة جرت في العام 2009 وكان من المفترض أن تجري الانتخابات فيما لو لم يتم التمديد الآنف الذكر في العام 2017، أي أن موعدين للانتخابات تم تقويضهما نظريا لأن الانتخابات يجب أن تجري كل أربع سنوات، وعمليا فإن هذين التمديدين للبرلمان جعلا عمره اليوم تسع سنوات. الانتخابات الحالية تختلف عن آخر انتخابات لجهة خارطة التحالفات، لقد طويت مرحلة الانقسام الذي تمثل بقوى الثامن من آذار مقابل تحالف مثلته قوى 14 آذار، أي أن عنوان الصراع السياسي الذي قام على أساس السيادة ومشروع الدولة وهو العنوان الذي رفعته قوى 14 آذار في مواجهة مشروع حزب الله الذي يرمز إليه بمشروع الدويلة داخل الدولة، انتهى إلى هزيمة مشروع الدولة لحساب الدويلة، من دون أن يعني ذلك هزيمة القوى التي سميت سيادية، بل أن ما حصل هو أن معظم القوى السيادية دخلت في تسوية أقصت المشروع الدولتي لحساب تثبيت قواعد مشروع حزب الله في المستوى الاستراتيجي، لا سيما السكوت على دور السلاح غير الشرعي تحت عنوان ربط النزاع، والانتقال إلى مرحلة جديدة تقوم على تعزيز التقاسم المذهبي والطائفي للمنافع وللفساد في الدولة بين مختلف القوى داخل السلطة وبرعاية حزب الله، وهي تجربة مسبوقة عاشها لبنان في الحقبة التي امتدت من عام 1992 إلى عام 2005 أثناء مرحلة الوصاية السورية التي يملأ فراغها حزب الله اليوم. الانتخابات النيابية المرتقبة وظيفتها تثبيت هذه المعادلة وترسيخها، كما يطمح حزب الله الذي لعب دورا محوريا في إقرار قانون انتخاب يلبي مطلبه إلى إدارة عملية الانتخابات وتحالفاتها بما يوفر له الأكثرية في المجلس التشريعي من خلال اعتقاده أن لديه القدرة على التدخل أو اختراق كل الطوائف اللبنانية، فيما هذه القدرة مفتقدة لدى الأطراف الأخرى سواء كانت حلفاء أو خصوما. وتتأتى قدرة حزب الله هذه على ما يراه العديد من المراقبين من كونه يتميّز عن بقية القوى السياسية بامتلاك سطوة السلاح والقدرة المالية والماكينة الحزبية الانتخابية والأمنية، بما يجعله قادرا على أن يرسم التحالفات ويحميها ويساهم في تمويلها في معظم المناطق اللبنانية. وفي نفس الوقت يمتلك القدرة على ممارسة الضغوط على الخصم وعرقلة تحالفاته بسبب ما يمتلكه من ميزات أمنية وسطوة عسكرية وسياسية. هذه الوقائع، أي القدرة المادية وطبيعة قانون الانتخاب، تجعل حزب الله مهتما بإجراء الانتخابات النيابية في موعدها، وهذا ما يبرز من المواقف المتكررة لقياداته عبر التأكيد على إجراء الانتخابات في موعدها هذه المرة من دون أيّ تأجيل من جهة، ومن خلال سعيه لاستثمار الستاتيكو السياسي الذي يلائمه اليوم في تحقيق نتائج انتخابية تعزز من وصايته ونفوذه في اللعبة السياسية لأربع سنوات مقبلة، من جهة ثانية. لكن هل يوافق حساب الحقل حساب البيدر؟ كما هو معروف فإن حزب الله كان عام 2009 جازما بأنه سيحقق وحلفاؤه الانتصار في الانتخابات النيابية، ولكن كانت المفاجأة أنه خسر الأكثرية، وذهب مباشرة إلى استخدام سطوة السلاح لتعويض هذه الخسارة، بأن فرض شروطه على الآخرين بقوة السلاح. تبدو الحسابات الظاهرة للانتخابات المقبلة أن المنتصر فيها سيكون حزب الله، لكن في بلد كلبنان، تشكل الموازين الطائفية عنصرا شديد الحساسية، وفي ظل قانون انتخاب يهدف إلى تشريع سطوة حزب الله العسكرية، فإن ردود الفعل الانتخابية ستكون محكومة بهذا الاعتبار بالدرجة الأولى، فعجز اللبناني عموما عن مواجهة حزب الله عسكريا أو أمنيا، سيدفعه من الزاوية اللبنانية أولا، ومن الزاوية المتصلة برفض الغلبة الطائفية في البلد ثانيا، إلى مواجهة غريزية في صندوق الاقتراع لما يخلّ بالتوازن الطائفي من جهة، ولما يسبب رفض تشريع سطوة حزب الله على البلد من جهة ثانية. انطلاقا من رصد هذه المعادلة الدقيقة وقدرتها الذاتية في الدفاع عن وجودها، يمكن رصد أن لبنان يشهد بروز ظواهر مقاومة مدنية لهذا الواقع واحتمالاته في الانتخابات النيابية المقبلة، فالتمسك بالدولة والتصويب على الخلل الذي تعاني منه السلطة في إدارتها لمصالح المواطنين وحقوقهم، والتصويب على الفساد وعلى الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها لبنان فضلا عن الاختلال المالي في الموازنة العامة، كلها مؤشرات تدل على أن الإدارة التي يطمح حزب الله لتثبيتها ذاهبة بأوضاع اللبنانيين نحو الأسوأ على كل الصعد الحياتية، وبالتالي فإن المناخ السياسي اللبناني الذي يبدو في الظاهر أنه يخيّم على واقع سياسي وانتخابي يتسم بالمنافسة داخل الطوائف بعيدا عن مقتضيات السيادة والدولة القوية والمستقرة، إلا أن ذلك هو الظاهر من المناخ فيما الوقائع حبلى بأسئلة يومية ووطنية وجودية. فكما إعلان الانتصارات في الإقليم يبدو غير واقعي للمحور الإيراني في العراق وسوريا، كذلك رسم المعادلات للسلطة اللبنانية غير منطقي ولا يستند إلى وقائع اقتصادية واجتماعية راسخة، فلبنان الذي انتعش وازدهر في ظل سياسة الانفتاح وفي ظل الاندماج بمحيطه العربي، كان يتراجع كلما بدا أن هناك سياسات تسعى إلى عزله إقليمياً منذ الاجتياحات الإسرائيلية إلى محاولة أسره إيرانيا، وهذا ما يجري اليوم من خلال أسره بمعادلة إيرانية إسرائيلية عنوانها الأهم تأمين الأمن لإسرائيل، مقابل تأمين النفوذ والسيطرة على لبنان من قبل المحور الإيراني. الانتخابات لن تكون بين قوى 14 آذار وقوى 8 آذار، بل هي بين معادلة حزب الله أو وصايته على لبنان، وبين الرافضين لهذه الوصاية بكل ما تحمله من تداعيات على مستوى التوازن الطائفي وفي تغيير هوية لبنان في محيطه العربي، وفي المستوى الأهم المتصل بعجز السلطة التي يرعاها حزب الله عن تقديم أي بدائل قابلة للحياة لاستنقاذ البلد من أزماته الاقتصادية والمالية. يعتقد القريبون من حزب الله أن الانتخابات النيابية هي الحلقة الأخيرة التي تستكمل تشريع سيطرة سلاح حزب الله على البلد فعليا، لكن الوقائع العنيدة في التاريخ وفي الجغرافيا وفي الاجتماع اللبناني نفسه تقول غير ذلك، الانتخابات فرصة للقول في صندوق الانتخاب ما لا تقوله الألسن في العراء اللبناني، التزوير والضغوط غير المشروعة متوقعة وهي ستكون فرصة لإظهار قدرة اللبنانيين على الذود عن دولتهم وعن وطنهم. كاتب لبنانيعلي الأمين
مشاركة :