الهروب إلى الطبيعة بقلم: حسونة المصباحي

  • 1/23/2018
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

يجد الشعراء الرومانسيون الغربيون في الهروب إلى الطبيعة ما يقيهم شر التقدم الصناعي الذي يقوم على الربح المادي، مُقوّضا أسس ومبادئ العالم الروحاني.العرب حسونة المصباحي [نُشر في 2018/01/23، العدد: 10878، ص(14)] منذ القدم نشأت بين الطبيعة والشعراء والمبدعين والفلاسفة ألفة فباتوا يلجأون إليها ليجدوا في أحضانها ما يغذي عالمهم ويثريه ويعمّق أفكراهم، ويوسّعُ رؤاهم، ويفتح لهم آفاقا تتجدد في كلّ لقاء معها وهروب إليها، ورغم وحشتها وقسوة طبيعتها، فرّ الشعراء العرب الموصوفون بـ”الصعاليك” إلى الصحراء لتصبح الأم الرؤوم والأخت الحنون والحبيبة الموحية لهم بأعذب القصائد، والحامية إياهم من شرّ القبائل وحروبها، وأحقادها. وكان فلاسفة الإغريق وشعراؤهم يجدون في الطبيعة ما يساعدهم على استكشاف أسرار الكون والوجود. لذلك كانوا يفرون إليها كلما شعروا بالضيق والوحشة والخوف من شرّ البشر، وبطش الحكام وقسوتهم. وعلى ضفاف البحر الأسود، حيث أمضى سنوات المنفى المريرة، كتب أوفيد صاحب كتاب “التحولات” أجمل قصائده وأعذبها. ولا يكاد الشعر الصيني القديم يخلو من حضور الطبيعة في جميع تجلياتها في مختلف الفصول. وكذا الحال بالنسبة لقصائد الهايكو اليابانية. وفي موشحاتهم وأشعارهم كان شعراء الأندلس يحتفون بجمال الطبيعة خصوصا في الربيع عندما تخضرّ الأرض، وتزهرّ البساتين والحدائق لتكون رمزا لتجدد الحياة الدائم، وتجسيدا لعظمة الخالق المحب للجمال. وفي كتابه الشهير “خطاب الطريقة”، أشار الفيلسوف الفرنسي ديكارت إلى أنه حين يتعثر في الوصول إلى الحقيقة وسط أشواك الريبة والشك، يفضّل أن يقتدي بالمسافر في الغابة الذي حين يفقد وجهته لا يظل يدور حول نفسه بحثا عن طريق الخروج، بل يواصل سيره في اتجاه واحد لا يغيّره أبدا، وهو واثق من أنه سيتمكن في النهاية من العثور أخيرا على الوجهة الصحيحة. وفي “هواجس المتنزه المنفرد بنفسه”، أشار روسو إلى أن كل الشرور تأتي من الإنسان، أما الطبيعة فهي رمز الأمن والطمأنينة والسلام. ووجدَ الشعراء الرومانسيون الغربيون في الهروب إلى الطبيعة ما يقيهم شر التقدم الصناعي الذي يقوم على الربح المادي، مُقوّضا أسس ومبادئ العالم الروحاني. وفرّ الكاتب الأميركي هنري دافيد ثورو إلى الغابة ليعلن “العصيان المدني” على الدولة الأميركية التي تدمر الطبيعة لتبرر التقدم الصناعي والتكنولوجي، جاعلا من هذا العصيان أحد مقومات الديمقراطية الحقيقية ووسيلة لكسب المفهوم العميق للحرية. ورفض الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هايدغر الذهاب إلى برلين للتدريس في جامعتها المرموقة، مشيرا إلى أن “الغابة السوداء” التي فيها ولد ونشأ تتيح له أن يتأمل في ألغاز الكون والوجود. وحتى وفاته ظل يقيم في بيت جبلي تحيط به الغابات. وكان يقول إن الحديث مع الرعاة والفلاحين يفتنه ويغذيه فكريا أكثر من المقالات التي تنشرها الصحف والمجلات، ومن الجدل الذي يدور في نوادي المدن الصاخبة. وفي روايته “نيل”، كتب الفرنسي جاك لاكاريار يقول “لا شيء أمتع من النوم في الغابة، مفترشا الأرض، وملتحفا بالسماء حيث يسطع القمر”. ورغم أنه رمز للحداثة الغربية التي قامت على أسس التقدم العلمي والصناعي، فإن إزرا باوند لم يكن يحبّذ العيش في المدن الكبيرة، بل كان ينصح أصدقاءه من الكتاب والشعراء بالاستقرار في القرى والمدن الصغيرة لكي يكونوا بالقرب من الطبيعة الملهمة. وفي السنوات الأخيرة من حياته، ترك الشاعر الفرنسي رني شار باريس ونواديها الثقافية الصاخبة ليقيم في البيت العائلي القديم بمسقط رأسه ليل سور-سورغ بجنوب فرنسا. وتحت شجرة الكستناء المنتصبة أمام البيت كان يستقبل أصدقاءه، والمعجبين به، ومعهم كان يقضي الساعات الطويلة في الجدل حول قضايا الفن والحياة. وكان الشاعر التونسي أبوالقاسم الشابي عاشقا للطبيعة. وهذا ما تعكسه العديد من قصائد ديوانه اليتيم “أغاني الحياة”. وفي يومياته أشار إلى أن التجول في حديقة “البلفيدير” بالعاصمة يخفف عنه أوجاع قلبه المريض. كما أنه لا يشعر بالسعادة في معناها العميق إلا عندما يجد نفسه وحيدا بين الأشجار والأزهار، ولا صوت يتعالى غير أناشيد الطيور في الأفنان. وفي رائعته “المفكرة الريفية”، تغنى الأديب السوري أمين نخلة بالطبيعة الريفية وبحقولها وبساتينها وجداولها وأزهارها وغاباتها ودروبها. وقد كتب يقول “الدرب في الريف بيضاء تتلوى في خضرة، وهي في المدينة سوداء، فاحمة، يعوزها الشجر لتأنس بعض الأنس فوق ذلك السواد الطويل”. كاتب تونسيحسونة المصباحي

مشاركة :