بوصول تأثير الأخبار المزيفة إلى منطقة التلاعب في تحديد الكراسي الرئاسية في العالم، فإننا حتما مقبلون على التعامل مع حزمة من القوانين والتشريعات ذات روائح مختلفة يواجه العالم اليوم أعقد مشكلة تهدد أمن واستقرار المجتمعات على اختلافها، وتتمثل في كمية تدفق الأخبار المزيفة نتيجة التقدم الهائل والمثير على مستوى وسائل التكنولوجيا، التي تمخضت عنها صناعة برامج ذكية ومنصات للتواصل الاجتماعي تخطت الحدود السياسية حول العالم، وجعلت من نقل المحتوى أمرا في غاية السهولة والسرعة الرهيبة، سواء أكانت نصوصا تحريرية أم صورا أم مقاطع فيديوية، وبدأ العالم يسمع من قريب ومن بعيد صراخ الدول المتقدمة التي خرجت من صلب ثقافتها تلك البرامج والمنصات الناقلة، ولذا فهي تسارع اليوم وعلى قدم وساق لاحتواء ما يمكن احتواؤه والسيطرة على مضامين المحتويات الإعلامية المنقولة عبر تلك المنصات، فالأخبار والمعلومات المزيفة باتت مشكلة عالمية مقلقة، ولا بد بالتالي من إيجاد حلول عالمية رفيعة المستوى، تبحث وضع قوانين تتواءم مع انفتاح العالم على بعضه، بحيث لا ينتج عن تلك المعالجات القانونية قمع للرأي العام والحريات الخاصة. وقد ظهرت بوادر التحرك العالمي على هذا الصعيد على مستوى الحكومات في عدد من أكبر وأقوى دول العالم، التي تشعر حاليا بقلق بالغ جدا نتيجة تأثير تلك المحتويات الإعلامية المزيفة على مجرى ونتائج الانتخابات بكل مستوياتها، مجالس بلدية محلية، أو انتخابات المنظمات والمؤسسات، أو حتى انتخابات الرئاسة ذاتها، والأخيرة تبدو الآن أكثر إدراكا وإحساسا بخطر تلك المحتويات، وتستبين رأس الجبل الجليدي الضخم خلف تلك المنقولات المزيفة، وبدأت فعليا بطرح السؤال الكبير على الجميع: كيف يمكن مكافحة موجات الأخبار والمعلومات المزيفة، التي تعتمد في منطلقاتها على محاولات تشويه الخصوم – أو هكذا ترد صيغة وصفهم في الغالب -، لتغيير قرارات المجتمعات، وقلب النتائج الانتخابية؟ وتظهر أكبر المشكلات أمامهم في كيفية إصدار تشريعات جديدة تناسب العصر الرقمي الوافد الجديد على العالم. ففي فرنسا مثلا اقترح الرئيس إيمانويل ماكرون في المؤتمر السنوي للعام 2018 قانونا جديدا لمنع انتشار التضليل على الإنترنت، واعدا بتقليصه عبر سن قوانين صارمة تكون حتمية بنهاية العام الجاري. على الرغم من أن فرنسا لديها فعليا قوانين صارمة تجرم نشر الأخبار الصحافية المضللة التي تستهدف الإخلال بالسلام والأمن العام. لكن ماكرون يواجه تحديا كبيرا يتمثل في مناوأة الديمقراطيين الذين يرون أن ذلك قد يتسبب في سلب فرنسا صورتها العالمية كبلد أسس للنموذج الديمقراطي في العالم. وفي أميركا شاهد العالم بأسره لائحة ترمب لجوائز الإعلام المزيف، وما وصفه بالأخبار الكاذبة، والتي أطلقها مطلع هذا الأسبوع، وكانت وسائل إعلامية قد نشرت أن روسيا ربما سعت لمساعدته على الفوز بمقعد الرئاسة في الانتخابات. وفي ألمانيا صوت البرلمان في سبتمبر الماضي لصالح قانون لمكافحة انتشار الأخبار المزيفة على شبكات التواصل عرف باسم «نتزدج»، يطالب تلك الشبكات بإزالة كل المحتوى المخالف للقانون كالتضليل والعنصرية وخطابات الكراهية التي يبثها المستخدمون غالبا، خلال مدة أقصاها 24 ساعة من نشر المحتوى، وإلا فإنه سيتحتم عليها مواجهة غرامة مالية قد تصل إلى 50 مليون يورو. أما في المنطقة العربية فلا أحتاج إلى كثير من الشرح ونقل الصورة التي تبدو أوضح من الشمس في رابعة النهار، إذ بات استخدام كل منصات وسائل التواصل الاجتماعي تعج بالأخبار المزيفة التي تطلق ملايين الإشاعات والمعلومات المغلوطة، بغية التأثير على الشوارع العربية التي تعيش في الأصل أزمة وعي حاد بالمحتوى، كونها مستخدمة بدائية لوسائل التواصل وليست صانعة لها، إذ شرّعت المملكة قوانين النشر الإلكتروني وتضمنت عقوبات تنوّعت بين السجن والغرامات المالية، نتج عنها تقليص كبير جدا لحجم البيانات ذات المحتوى المغلوط والمزيف، وهو أحد أهداف تنظيم النشر والاستخدام العام لكل وسائل التواصل الحديثة. بوصول تأثير الأخبار المزيفة إلى منطقة التلاعب في تحديد نوعية الكراسي الرئاسية في العالم، فإننا حتما مقبلون على التعامل مع حزمة من القوانين والتشريعات ذات روائح مختلفة، سيعترض عليها عدد غير قليل من التيارات السياسية والفكرية، كما بدأ ذلك يلوح في الأفق في فرنسا، لكنها على الأرجح ستكون في صالح ضبط الاستخدام العام لوسائل النشر على اختلاف أنماطها ومسمياتها، وعلى جانب آخر سيوجه جيوش القراصنة هذه القوانين الجديدة ببرامج مقابلة تتمرد عليها، وتحاول كسر الحواجز. وسواء تم قبول تلك القوانين أو تم الاعتراض عليها، فإن الواضح في المشهد أن الحكومات مصرة على المضي قدما في إقرارها على نحو ما لقوانين تضمن على الأقل تقليص الفجوات التي تصنعها تلك المحتويات المزيفة في شوارع المجتمعات العالمية، فهل تنجح السياسة في مواجهة المد الكبير لتدفق سيل الأخبار المزيفة؟ الأكثر وضوحا أننا بانتظار حرب شرسة وطويلة جدا بين الطرفين، إذ لن تتوقف التكنولوجيا عن إنتاج الجديد، ولن يتوقف الناشرون للفوضى عن بث الإشاعة، ولن تقف الحكومات مكتوفة الأيدي عن المواجهة طالما مس كراسيها الضر.
مشاركة :