ينبئ الخلاف شبه الدائم بين الرئاستين الأميركية والفيليبينية عن نزعة استقلال تريد مانيلا أن تتكامل، وأن تودع في صندوق التاريخ العلاقة الخاصة بين البلدين التي تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر، حتى عُرف عن الفيليبين كونها أول بلد متأمرك في الشرق الأقصى. وكان الفيليبينيون يئسوا من وعود مستعمريهم الإسبان بتغيير سياستهم الاستعمارية، لذلك اتصل الثوار بالولايات المتحدة الأميركية التي كانت خصماً لإسبانيا في تلك المنطقة تطمح إلى الحلول محلها. وبالاعتماد على دعم الثوار الفيليبينيين استغلت أميركا حادث حرق إحدى سفنها في ميناء هافانا وأعلنت الحرب على كوبا وأرسلت الأميرال جورج ديويز لضرب القوات البحرية الإسبانية في الشرق الأقصى. ولكي يضمن النجاح تعاون الأميرال مع القائد الفيليبيني أغينالدوا الذي أشعل الثورة في جزيرة لوسون. واستمرت المعارك إلى أن استسلمت القوات الإسبانية ووُقّع ميثاق باريس في كانون الأول (ديسمبر) 1898 الذي حصلت بموجبه الولايات المتحدة على الفيليبين، وهكذا انتقل الفيليبينيون من قبضة إسبانيا إلى قبضة أميركا. ولكي تضمن واشنطن خضوع شعب الفيليبين عمدت إلى تحطيم مقوماته القومية ووضعت إدارة جديدة ونظاماً تعليمياً مطابقاً للنظام الأميركي وجعلت اللغة الإنكليزية هي اللغة «القومية»، إلا أن الوطنيين لم يستكينوا وواصلوا نضالهم بقيادة مانويل كيزون من أجل الاستقلال إلى أن اضطرّت السلطات الأميركية عام 1935 إلى إعلان «الكومنولث الفيليبيني» وعيّنت القائد كيزون نفسه رئيساً للحكومة المحلية، وأصبحت الفيليبين تتمتع عملياً بنوع من الاستقلال الذاتي كما وعدت أميركا بمنحها الاستقلال التام بعد عشر سنوات مع الحفاظ على كل الامتيازات الجمركية. لكن العلاقة الخاصة بين البلدين لا تزال قائمة، على الأقل في نظر المحيط الإقليمي. وكان المؤرخون الغربيون إلى عهد قريب يربطون تاريخ الفيليبين ببداية الاستعمار الإسباني في القرن السادس عشر، مع العلم أنه أقدم من ذلك بكثير، فالأبحاث الأثرية وتحليل الروايات الشفهية والمكتوبة والدراسات السكانية المتعددة قد مكّنت من وضع تاريخ هذا البلد في موضعه الصحيح. فالفيليبين الموجودة بالقرب من الطريق التجاري البحري الكبير الذي يربط بين الصين والهند كانت على مر الأزمان محطة مهمة على ذلك الطريق، فالصين كانت لها منذ زمن مبكر علاقات تجارية مع جزيرة لوسون في شمال البلاد حيث استقرّت جاليات صينية وانتشرت في ما بعد في بقية الجزر منذ القرن الخامس عشر؛ أما الحضارة الهندية فقد دخلت إلى الفيليبين عن طريق أندونيسيا، ويبرز تأثير تلك الحضارة في العديد من المفردات اللغوية التي هي من أصل سانسكريتي، وكذلك في قواعد الكتابة التقليدية المستمدة من القواعد الهندية؛ أما العنصر الآخر الذي كان له دور فعال وتأثير أقوى من بقية العناصر فهو الحضارة الإسلامية التي دخلت جزر الفيليبين الجنوبية انطلاقاً من سومطرا وماليزيا منذ القرن الخامس عشر؛ ففي عام 1450 تم إنشاء سلطنة إسلامية مستقلة في جزيرة «سولو» شرق البلاد ما لبثت أن نشرت الدين الإسلامي في جزيرة «ميندا ناو» وحتى في جزيرة «لوسون» في الشمال حيث كانت هناك سلطنة إسلامية صغيرة. وكان أول من وطئ أرض الفيليبين من الأوروبيين هو الرحالة البرتغالي «ماجلان» الذي كان يعمل آنذاك لحساب إسبانيا وذلك في 16 آذار (مارس) 1521. نزل ماجلان للمرة الأولى في جزيرة «سمر»، ثم واصل طريقه إلى جزيرة «سيبو» غرب البلد في حزيران، وأقام أول قداس مسيحي ثم واصل مسيرته إلى «مكتن» وهناك اصطدم بمقاومة عنيفة قادها القائد المحلي «لابو لابو» كانت نتيجتها مقتل ماجلان وفرار بقية أفراد البعثة. لم يقف الإسبانيون عند ذلك الحد بل أرسلوا حملات أخرى، واحتلوا مانيلا التي أصبحت قاعدة للاستعمار الإسباني في المنطقة وأُطلق اسم الملك الإسباني «فيليب الثاني» على تلك الجزر التي أصبحت تُسمى الفيليبين. في هذه الأثناء كان الإسبان يتعرضون لمنافسة البرتغاليين والهولنديين واليابانيين والصينيين الذين حاولوا عام 1574 استعادة مانيلا لكنهم فشلوا إلا أنهم استطاعوا أن يثبتوا وجودهم في الحياة الاقتصادية؛ أما اليابانيون فقد ضايقوا إلى حد ما الاستعمار الإسباني في المناطق الشمالية. ومع ذلك لم يهدأ الفيليبينيون فانتفضوا في المناطق الشمالية ليتخلصوا من الاستعمار الإسباني. ويلاحظ أن جزر «مينداناو» و «سولو» الجنوبية التي كان يسكنها المسلمون «المورو»، ظلت عملياً مستقلة حتى نهاية السيطرة الإسبانية. وبحلول القرن التاسع عشر بدأت الظروف تتغير. ففي عام 1837 جعلت إسبانيا مانيلا ميناءً حراً، بعد ذلك تغيّرت ملامح الاقتصاد الذي أصبح يعتمد على المزارع الواسعة التي تنتج المنتوجات الإستوائية المخصصة للتصدير كالسكر والتبغ... إلى جانب هذا التغيير المادي برزت الأفكار الليبرالية في الفترة التي كانت فيها إسبانيا تنعم بنظام جمهوري (1868- 1870)، وتكوّنت حركات استقلالية قامت بانتفاضة عام 1871 التي قمعتها السلطات الاستعمارية بكل قسوة ونتيجة لذلك القمع الوحشي فرّ عدد من الزعماء والأدباء الوطنيين إلى هونغ كونغ وأسسوا هناك حركات مناهضة لإسبانيا منها «الرابطة الفيليبينية» 1891 برئاسة خوسية ريزال، والجامعة السرية الكاتيبونية بزعامة أندريس بونيفاسيو. * كاتب لبناني.
مشاركة :