أخصائيون في علم الاستراتيجيات من النسق التصاعدي الذي اتخذته الأزمة الهيكلية في تونس ومن تداعياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في ظل غياب رؤية لصناعة مشروع وطني برامجي وسياسات من شأنها أن تحلحل الأزمة. وقال أخصائيون إن البلاد تفتقد لصناعات سياسات برامجية مدروسة بناء على امكانياتها المحدودة والمطالب الاجتماعية المشروعة وهو مما زاد في تعميق الأزمة. وأجمع الأخصائيون وهم يتحدثون لمراسل ميدل ايست اونلاين على أنه "الوعي بهيكلية الأزمة وتجاوزها لثروات البلاد النادرة لا يمنع من التأكيد على انه ما كان لتتعمق بشكل خطير لولا غياب صناعة قرارات استراتيجية جريئة وسياسات برامجية. وخلال سبع سنوات اكتفت الحكومات المتعاقبة على الحكم بإدارة الشأن العام بناء على إجراءات مسكنة دون أن تقدم على إصلاحات كبرى بناء على طبيعة أوضاع البلاد. وقال سالم بن سالم الأخصائي في علم الاستراتيجيات إن "تونس اليوم في أمس الحاجة إلى صناعة مشروع وطني برامجي وسياسات تنموية تحقق معادلة صعبة بين ندرة الثروات وبين سقف عالم من المطالبالاجتماعية لحلحلة الأزمة". وشدد بن صالح الذي كان يتحدث لمراسل ميدل ايست اونلاين على أن "الاقتصاد المنهك والاحتقان الاجتماعي وهشاشة الأوضاع كثيرا من تغذت من الافتقاد لصناعة سياسات حديثة ومنتجة للثروات والاكتفاء بإدارة ما هو متوفر". وأضاف يقول "أعني بصناعة السياسات استحداث مشروع برامجي اقتصادي وتنمويا واجتماعيا وسياسيا في إطار إصلاحات هيكلية تقطع مع سياسة الترقيع والمسكنات". ويبدو، كما يذهب إلى ذلك الخبراء، أن الحكومات التي تعاقبت على الحكم استخفت بعمق الأزمة الاقتصادي لتختزلها في المسائل السياسية والمعضلات الاجتماعية. غير ان تلك الحكومات تقول إن ندرة الثروات من جهة، وسقف المطالب الاجتماعية المرتفع من جهة أخرى وما رافقه من احتقان وهشاشة،حال دون إجراء إصلاحات. وفي ظل غياب صناعات سياسة اقتصادية ناجعة انزلقت نسبة النمو من 5 بالمئة العام 2010 قبل سقوط نظام بن علي إلى 0.8 العام 2015 لترتفع قليلا إلى 2.1 حاليا. وتفاقمت نسبة التضخم من 3 بالمئة إلى 6 بالمئة فيما بلغ عجز موازنة الدولة إلى مستوى قياسي علاوة على الانزلاق الحاد للدينار التونسي وتراجع احتياط العملة الصعبة. إضافة إلى ذلك تراجعت عائدات غالبية القطاعات وفي مقدمتها السياحة التي تمثل 7 بالمئة من الناتج المحلي والاستثمار الخارجي الذي كان يعد 2300 مؤسسة. ويقول عبدالوهاب الشريف الخبير الدولي في علم التنمية والأستاذ بالجامعة التونسية "إن مرد الافلاس الذي يقف على مشارفه الاقتصاد لئن كان يعود إلى ندرة الثروات وتدني أداء القطاعات المنتجة فإن ذلك لا يمنع من القول بان مرده أيضا افتقاد البلاد لصناع مشروع برامجي يقود سياسات اقتصادية بناء على رؤية ومشاريع قابلة للتنفيذ". ويضيف الشريف وهو يتحدث إلى مراسل ميدل ايست اونلاين يقول "إن عمق الأزمة هو اقتصادي لكن بدل أن تعي الحكومات هذه الخطورة لم تفتح الملف بجرأة حتى أنها تحافظ على نفس مؤشرات ما قبل انتفاضة يناير/كانون الثاني 2011 نتيجة غياب الرؤية. وتظهر وثيقة حصل عليها مراسل ميدل ايست اونلاين أن غالبية المشاريع المتعلقة أساسا بالبنية التحتية من طروقات وجسور وأنفاق التي يتم تنفيذها حاليا لا تعدو ان تكون سوى مشاريع أطلقها نظام بن علي قبل سقوطه. أما المشاريع التي أعلنت عنها الحكومات المتعاقبة ونالت ثقة البرلمان فقد بقيت معلقة تتقاذفها تلك الحكومات فيما بينها مما زاد في تعميق تدني أداء الاقتصاد. ولم تراهن الحكومات، كما يذهب إلى ذلك الخبراء، على مشاريع منتجة للثروات من شانها أن تحرك الاقتصاد المتهالك وإنما ركزت على قطاعات تتأثر مباشرة بهشاشة أوضاع البلاد وبتقلبات الأسواق العالمية وفي مقدمتها السياحة والاستثمار الخارجي. وطالب عبد الوهاب الشريف بـ"ضرورة النأي عن منطق إدارة ما هو موجود والانتقال إلى ما اسماه بصناعات سياسات اقتصادية حديثة في عالم تصاعدت فيه اقتصاديات جديدة على غرار الصين وتآكلت فيه الأسواق التقليدية التي تراهن عليها تونس". ويحذ الأخصائيون في التنمية الاجتماعية من تفاقم تداعيات غياب مشروع يقود صناعة سياسات تنموية بناء على مطالب الفئات الهشة من أن تأخذ نسقا تصاعديا قد يقود بالبلاد إلى انتفاضة ثانية أخطر في ظل تدني أداء الدولة وهشاشة الأوضاع العامة. وقال الطيب الراجحي أستاذ علم اجتماع التنمية بالجامعة التونسية "إن الحكم الرشيد لا يعني اجترار نفس الدوافع التي وقفت وراء انتفاضة يناير والاكتفاء إما باستهلاك الجوانب المضيئة للنظام السابق بقدر ما يعني صناعة سياسات اجتماعية حديثة". وشدد الراجحي وهو يتحدث لمراسل ميدل ايست اونلاين يقول "لم يقد غياب صناعة سياسات اجتماعية بناء على مطالب غالبية التونسيين لا فقد الى التفقير الممنهج وإنما قاد أيضا إلى تعميق الشعور بالحيف وتجريد الفئات الهشة من مبدأ المواطنة الحق". وتصل نسبة الفقر في عدد من البلدات والأحياء الشعبية والقرى والأرياف إلى نحو 60 بالمئة فيما تقدر نسبة الفقر العامة بنحو 15 بالمئة. وفي ظل حالة الاحتقان التي فشلت الحكومة في تنفيسها سوى بالخطاب السياسي الشعبوي أو بمسكنات المساعدات الإنسانية يطالب الراجحي بـ"الكف عن منطق الترقيع وفتح الملف الاجتماعي بجدية وإطلاق حوار تشارك فيه كفاءات ممثلة لأهالي الجهات. وبرز غياب فن صناعة السياسة، كما يذهب إلى ذلك أخصائيون في العلوم السياسية، أكثر وضوحا إذا ما تصفحنا أوراق أداء الحكومات التي تعاقبت على الحكم. ولا يتردد الأخصائيون في وصف تلك الحكومات بـ"حكومات تصرف أعمال" والحال أن "أوضاع البلاد تستوجب رؤية وصناعة قرارات استراتيجيةتقود مشروعا وطنيا". ويقول رشيد الرويسي المحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية بالجامعة التونسية "إن الأزمة كثيرا ما تغذت من غياب أي إرادة لصناعة قرارات مصيرية واستراتيجية". ويشدد الرويسي وهو يتحدث إلى مراسل ميدل ايست اونلاين على أن "مكمن وهن الحكومات المتعاقبة يتمثل فيما اسميه الافتقار إلى فن صناعة مشروع وطني قوي وإلى غياب سياسة مستحدثة تكون كفيلة بالرفع من أداء مؤسسات الدولةّ". وتظهر قراءة التاريخ السياسي الحديث في تونس أنه ما كان للرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وبن علي تركيز نظام قوي، مهما كانت المؤاخذات، لو لا انتهاجهما لصناع مشروع وسياسات برامجية سواء على المستوى السياسي أو على المستوى التنموي. وبالقابل تظهر قراء مسار الحكومات المتعاقبة أنها لم تتوصل بعد سبع سنوات إلى صناعة مشروع للتحديث السياسي ولا حتى إلى صناعة قرار سياسي مصيري واحد. ويجمع كل من سالم بن سالم والطيب الراجحي ورشيد الرويسي على أن "تونس اليوم في أمس الحاجة إلى الانتقال من حكومة تصرف اعمال متأزمة إلى حكومة صناعة مشروع وطني سياسي واقتصادي وتنموي يكون كفيلا بتحريك التجربة التونسية". وهم يشددون على أنه"في حال الاستنكاف من صناعة مشروع حديث ستأخذ الأزمة منعرجا خطيرا" لافتين إلى أن "تعمق الأزمة ناجم عن غياب رؤية استراتيجية للحكم". غير أنهم يلاحظون بالمقابل أن أي "صناعة لمشروع وطني حديث وسياسات برامجية واضحة تستوجب قوة سياسية واحدة تقود المشروع والحكم بقوة".
مشاركة :