عنوان الرواية، أو أوُلي عتبات النص، وقبل أن تدْلف نظرات المُتلقّي للداخل،، بصفة عامة، إمّا أن يكون العنوان مُنْبئا بفحوي المضمون، فتتبلور صورة شاملة في الذهن عمّا سَيُقرأ، وإمّا أن يكون العنوان مُخادعا فيوُهم عكس المضمون. وفي عنواننا هنا "العنيدة والذئاب" كلمتان رغْم ما يبدو مِن تباعدهما، إلّا أن الكلمتين تتضمّنان صفات مِشتركة تدعو خيال متصفح العنوان للإبحار في امتدادات لم تلامسها أفكاره قَبلا، محاولا اكتشاف احتمالات تنبّؤية بمقاصد الراوي الإبداعية. فيحاول المُتلقي الخروج مِن منطقة الركود بكسر الروتين الفكري والخروج مِن المَسَار المألوف لتوقّعات ما وراء العنوان علي باب الغلاف الذي لا يزال مُغلقا بَعْد.. دون ما بَعْده. "العنيدة والذئاب" صنفان أحدهما مِن البشر والآخر مِن غيرِه. ومع ذلك تجمعهما صفات. رغم تضادهما الظاهر... أليس لكل منهما أنياب؟!! فقط العنيدة أنيابها فكريّة مَجازيّة، والذئاب أنيابها حقيقية، أليس لكل منهما ضحايا؟! أليس لكل منهما أعداء؟! أليس لكل منهما معارك خاسرة؟! أليس؟! .. أليس؟! وتتوالى التساؤلات يستدعيها للذهن الرغبة في سرعة إستنباط مُراد الكاتب أو الراوي مِن هذا العنوان، فيجد المتلقّي نفسه دون أن يدري واقعا في شِبَاك حُب الإستطلاع التي أعدّها له الكاتب ببراعة إبداعية. تجْرفه كدوّامة محيطية ليعْبر فَيْض أوّلي. يسبح بعد ذلك طوْعا لِما وراء الأبواب. • الإهداء: إلى الباحثين عن حلم السعادة. ما أبدع هذا الإهداء. يشبه رؤية السراب سرمدي المَدَى. يشبه الغواية في ثوب الفضيلة. الإهداء دعوة ظاهِرها رحمة بوعد إرشادهم للسعادة، وباطنها العذاب بأنها حلم. والحلم وليد غفوة سرعان ما يُوُقَظون منها، دعوة تمثل نداء عاما للأغلب الأعم من البشر. وهل هناك من لا يبحث عن السعادة؟! مهما تباينت الأساليب والمناهج، فالكل باحث عنها، لذا فالكاتب بهذا الإهداء يُشْعِر كل مَن يقرأ الإهداء بأنه المَعْنِي به. وبأن كلاً منهم سيجد طريقه إليها، فقط لو قرأ الرواية. ورغم احتمال معرفة المتلقي بل وأحيانا يقينه بأنّه إهداء يتضمن دعوه ساحرة لإكتشاف طرق السعادة بقراءة الرواية، إلّا أنه يمضي تحت تأثير هذا الأمل الوهمي، آملا أن يجد الحقيقة في نهاية المطاف، فيمسك بأطرافها، لذا يبدأ القارىء القراءة بسعادة، وقد قدم المؤلف روايته تحت عدة عناوين كما يلي: • أطلال الطفولة: أول ما يتبادر للذهن بهذا العنوان هو ذكريات الطفولة، وهي ليست فقط أطلال، فذكريات الطفولة هي الحلم الذي يظل معنا حتى بعد أن نستيقظ. إنها البوْتقة التي تحتوي كل ما يتعرّض له الطفل. بها آثار لكل مَن هو كان موجودا علي خريطة حياة الطفل. ولكل مَن هو في خلفية حياته. إن ذكريات الطفولة لها بصمة وشمية الأثر تكوّن ذاكرة الراشد. لذلك حاول الكاتب أن يرسم خطوطا سريعة عريضة لِما تعرضت له بطلة الرواية مِن أحداث في طفولتها، ورسم بهذه الأحداث بروفيلا كروكيا للشخصية المحورية، مُبررا التكوين الداخلي لها، ومعرجًا على أسباب التناقض الموجود بالشخصية؛ لأنها إن مالت ناحية الرجال لحنان أخيها، فقد كان أبوها مصدر قسوة كافية لأن تمنعها الميل لهم، ولكنّ للنفس في عالَمها شئونا، إلّا أن هدف الكاتب هنا كان مجرد وضع أساس سريع به يوضح ويقدم لنا معالم شخصية ستصاحبنا ونصاحبها في رحلتنا التي برع الكاتب في تشجيعنا بداية على القيام بها داخل أروقة الرواية. وقد نجح الكاتب في إظهار بعض هذا التناقض في الفرق بين تيقّظ ليلى في المرّة الأولى مُشرقة بالأمل ويمامات قلبها صادحة، ثم غفوتها وتيقّظها ثانية ومداهمة ذكريات طفولتها ليومها وخروجها مِن مكمنها مِن بين مقتنيات ذاكرتها المُغْلِقة أبوابه، ولكن مِن الواضح أن ذكرياتها ليست طوْع عقلها، بدليل خروجها دونما استدعاء كضيف متطفّل علي أيامها. • أجنحة الأحلام: مازال الكاتب مُصِرّا علي أن يَعِد القارىء مِن خلال العنوان، بأن يَحْمِله إلي حيث لم يذهب مِن قَبْل، بأجنحة الأحلام. ورغم أن هذه الأجنحة واهية إلّا أنها قوية بما يكفي لأن تحمل مَن يطير بها لأبعد مَدَى، ثم يكتشف القارىء أن الأجنحة حَمَلت "كمال" الذي يبدو أنه سيكون شخصية محوريّة في الرواية، ويضع على لسان تفكيره مقوله فلسفية "ما أحلى الأيام المنصرمة عندما تمضي تطوي جزءا مِن حياة الإنسان لا يتبقي منها إلّا الذكريات"، ودوْما يبث الكاتب الأمل والتفاؤل فى نفوس قارئيه، لأنه ليس بالضرورة أن تكون هذه الأيام المُشار إليها تتّسم بأنها حلوة، لكنها نظرة الكاتب الذي يحاول دفع تفكير القارىء لتذوّق الجَمَال بجميع الإحتمالات القائمة. يحاول الكاتب أن يرسم بقفزات تصوّرية لذكريات طفولة كمال. صورة موازية ومُغايرة ومناقضة تماما لصورة طفولة ليلى، وكأننا أمام قطارين مِن الصور الذهنية يمضيان بسرعة ثابتة معا جنبا إلى جنب في خطّين متوازيين، فبالتالي التوقّع ألّا يتلاقيا، أو أن الكاتب يمهد لأن إلتقاءهما سيكون مُدوّيا. صوّر الكاتب إحساس كمال بالصدمة بأنّه يمضي بلا ثياب بزعم أن الأجساد لا يسترها إلّا المال والنفوذ. • الحادثة: عنوان يوحي بكارثة يقينية. ومع ذلك يبدأ الكاتب من أول كلمة (نسج القدر خيوط الأمل)، وكأنه يُسْرع بإضاءة تفاؤلية تغيّر مَسار فكر القارىء، قبل أن يُظلِم بالتشاؤم، وظل وصف جمال ليلى يحتل مساحة تستدعي استخدام مُسمى آخر بدلا من الحادثة التي هي ليست تماما حادثة، وأتت أحداثها في آخر سطور الفقرة، وكانت لرجاء قريبة وزميلة ليلى. حاول الكاتب أن يسوق بالدليل العملي تناقض طباع ليلى، فكتب: "كثيرا ما كان يؤلمها أن ترى العيون تذرف أنهارا من الحسرة والسهاد" وبعدها بموضع آخر: "كانت لا تبالي بالشهداء والغرقى في بحار حبها، متعتها كانت في لفت الإنتباه والتأثير، فتغزو الآخر دون رحمة أو هوادة". يستطرد كاتبنا ويُسهب في وصف جمال ليلى، كأنّه يحاول أن يبرر النرجسية والهيستريا الإستعراضية والنشوة التي تنتابها مِن رؤية القلوب المُحَطّمة معنويا لضحاياها. • القيد: عبّر الكاتب عمّا شعر به ناجي من امتلاك حب ليلى لقلبه بمقابلة سردية بالقيد الذى ساومه العسكري على إعفائه منه فلم يَعِره إلتفاتا، وكأنه ما شعر بالقيد الحديدي في يده لقوة القيد الحريري على قلبه وروحه. كما أفسح المجال لإستيقاظ ذكريات الطفولة بمخ ناجي وإستعراض الصور الذهنية التي توضّح منهجيته في الحصول على ما يريده ولو بعد حين، وأوضح متى نبَت الصبر كأهم أسلحة حياته. • المساومة: دوْما يسعي كاتبنا لإستدعاء ذكريات الطفولة لكل شخصية جديدة تدخل المجال القرائي، مثل هذه الفكرة التي رصد فيها طفولة فواكة ابنة خالة ناجي، وكذا رصد موقفا بطفولة رضوان صديق ناجي باعتباره موقفا رئيسيا بحياته رسم له قِيَمه الحياتية، وكأنه يعطي جلسة نفسية مستترة لكل قارىء قد يكون موجودا بصورة أو بأخرى على خريطة حياة طفل، لينبهه لخطورة التأثير لسلوكياتهم على حياة الراشد التي سيكونها فيما بعد، وهي حقيقة يقينية مؤكّده، وتنبيه ضروري وإرشاد ضمني رائع من الكاتب، ولو لم تكن للرواية مِن فوائد إلّا هذا التنبيه المُجسّد، لكفى به فائدة للرواية، تنبه آلاف القرّاء لتعديل سلوكياتهم مع أطفالهم، والإقتداء ببعض السلوكيات السويّة الإيجابية التي أتى ذِكْرها. يوضح الكاتب طغيان أصحاب النفوذ وسلب الحقوق من أصحابها، فها هو رضوان لم يستطع أن يحصل على قطعة أرض بعد تخرّجة من كلية الزراعة، تماما كما لم يتم تعيين ناجي بالنيابة والتي كان يستحقّها لتفوّقه. • رنين الذهب: حرص الكاتب على ذِكْر العناوين بأسماء الشوارع وأرقام المباني والشقق، كأنه يريد الإيحاء أو التأكيد للقارىء أنها رواية من الواقع بكل أبطالها، وقد تكون بالفعل كذلك حتى ولو بعناوين مُغايرة. أسهب الكاتب في وصف سوء حالة والد رجاء التي أصابها ناجي بكسر في يدها، حتى أنه على وشك دخول السجن، وذلك تمهيد للقارىء بقبوله المساومة للتنازل، وللمرة الثالثة يشير الكاتب أن سيد الأخ الأصغر من رجاء لم يعين معيدا بالجامعة لأنه ليس من أهل الحظوة، ليؤكّد أنها ظاهرة عامة وليس صدفة، وفي النهاية يوضح كاتبنا أن التلويح بالمال لم يزغ عقل والد رجاء وطلب القليل لسداد ديونه. هنا إشارة مهمة لنزاهة الأب الفقير وقناعته. • الجيوب الخاوية: تصوير رائع للكاتب عن تصوّر ناجي لكيفية إنبات حبّه في قلب ليلى. وهذه واحدة مِن الصور الجمالية المُستخدمة بكثرة في النص، لتساهم في إبهاج مشاعر المتلقي. بالقدرة على الأحلام في أشد اللحظات حلكة وهي جيوب ناجي الخاوية، فالاحلام براعم الحقيقة، وكأن الكاتب في حالة يقظة وعي بضرورة بث التفاؤل لنفس وعقل القارىء، أثناء الكتابة المفترض بها تدفقية تلقائية، مما ينم عن يقينية ورسوخ الأمل والتفاؤل ضمن مقتنيات روح وعقل الكاتب حتى أنها تسري بالكلمات كالدماء بالشرايين. • الإستدراج: إستطاع الكاتب تصوير موقف ليلى بين المطرقة والسندان، ببراعة تجيب عن أية تساؤلات بذهن القارىء عن الصورة المرسومة لشخصية ليلى بأهدافها وطموحها وبما يناسب تناقضها. • شرارة الحب: برع الكاتب في سجال الكلمات الوصفية بين محاولات ناجي إشعال الفتيل بالغرام، وإسراع ليلى بوأد الشرارة. الصور الجمالية من أبرز أدوات الكاتب في جذب القارىء لمتعة المتابعة، وقد لخص في جملة أهم عامل جذب ليلى لناجي "يصنع لنفسه موقعا في عالَم تقلصت فيه فرص النجاح بشرف"، ونجح في حمْل القارىء معه أثناء تأرجح ليلى ذات اليمين تجاه ناجي ثم عودتها ذات اليسار بعقل طامع في أموال سامي وترك الصراع بدون حسم ومعه القارىء يترقب لمن سيكون الفوز؟ • ثمار الخريف: تنوعت هذه الفقرة في إظهار ما للقلوب من سلطان، ولا يزال الكاتب يسوق الأمثلة علي سلطان أصحاب النفوذ على أقدار البشر في مواقف احتياجهم وكيفية استغلالهم لأطماعه، وأوضح مع ذلك بعض القلوب النقية في صورة الخالة التي لم تؤذِ ناجي رغم معرفتها بعدم حبه لإبنتها. إنها نقطة ضوئية نقية في ظلام الفساد المنتشر، كأن الكاتب يحاول أن يحافظ على التوازن البيئي النفسى والعقلي والوجداني. • الخلاص: في هذه الفقرة قد يُثَار تساؤل للقارىء عن التناقض الموجود في مواقف والد ليلى، فهو الجاد الحاسم الحازم الذي لا يرضى بأي قصور في عمله، ويعترض على لبس ليلى ويمزّقه لها، وتشتري مثله مرة أخري، ولا يمنعها ويكون فقط معترضا علي لبسها الذي سبق ومزّقه، وتبدو صورة الأب كأنه عاجز عن حصوله على احترام ابنته له ولكلمته، ورغم ما أوحت به الأحداث من قسوة الأب أحيانا على ابنته لدرجة ضربها لمجرد تمسّكها بعروستها وهي صغيرة، وبالقياس كان يمكن القول إنه استمر في مسلسل الضرب لمخالفات أكبر لكلامه ترتكبها الابنة، وإن لم يأت ذِكْر ذلك لكنه منهجه الذي يتبعه في توجيه أبنائه، ومع ذلك تعبر الابنة عن حبّها لأبيها. لا عجب فللنفس البشرية عجائبها وتناقضاتها، التي لا تدع مجالا للعجب منها، وواضح أن الكاتب مُلِم بالكثير مِن خبايا النفس البشرية. • الإختيار: إستطاع الكاتب ببراعة أن يوجِز ويبلْوِر صورة نفسية لِما يعتمل بنفس ناجي مِن مشاعر متضاربة ومتصارعة معا، وكأنّه يصف حال الأغلب الأعم مِن شباب هذه الأيام، فكل منهم ينبهر بالجمال الصارخ المكشوف المستهتر مظهريا ويريد أن يستأثر به، ويُمنّي النفس بقدرته فيما بعد على تغليف هذا الجمال وحجبه عن الآخرين والإحتفاظ به رهين محبسه له وحده، وكم مِن تصدّعات أسرية تحدث نِتاج ذلك، والمجال غير مُتّسع لتحليل الظاهرة التي أوجزها كاتبنا. وبرع الكاتب في التنقّل بالصورة بين ما كان مِن حالهما قبل الزواج وحالهما الآني، وأوجز فيضا مِن المعاني بين ضفّتي كلمات قليلة كمثال "مازالت بقايا الحب تغلف التوتر بسياج مِن حرير تمزّقت أطرافه". "كقتيل في الهوى يوقّع صكوك الغفران". ومن الصور البلاغية "يحرّض الأشواق على الإنتحار". وغيرها مِن المعاني المغزولة بالأحرف إنه السهل الممتنع. • الإنكسار: جاء هذا الإنكسار غريبا وسريعا. تماما كما جاء انسياق ليلى لمطالب ناجي بالتواجد بالمنزل بسهولة وسرعة لا تتناسب مع طبيعة الأحداث لأن لديها إستعراضا هستيريا لجمالها وجسدها حتي يوم زفافها لحبيبها، وكيف يطلب منها الكل الطاعة وهم يعرفون طبعها، ومع ذلك لخص الكاتب حكمة حياة تائهة "الكثير من الرجال حين يتعاملون مع النساء يقهروهن بالعضلات"، ولا يدري الرجال أن ذلك دليل على صِغَر زوايا الرؤية بعقولهم وإنخفاض تقديرهم لذواتهم، تماما كما لخص مبدعنا هنا كساد الحياة بينهما "لا تذوب لحظات الجمود إلّا عندما تشرق شمس الشوق" كدليل على ضحالة الحياة وما آلت إليه، وكأن هذا ما أصبح يجمعهما فقط، إن هو إلّا رباط واهٍ لا يلبث أن ينقطع. وهذا ما حدث. وهنا نرى أنه يجب مناقشة هذا العمل، لِما يحمل مِن دروس ورسائل وعلامات إستفهام تحتاج إجابات مِن مختلف زوايا التناول، أوضح ما فيها ومثله منتشر بالمجتمع. تحليل نوع حب ناجي. نعم هو حب إمتلاك، لكن أببساطة يستغني عن وجود مَن يحبّها بجانبه لوجود بعض التجاوزات، أفضل مِن تحمّل هذه التجاوزات ومحاولة تغييرها، أو تغيير نفسه مقابل وجودها معه، وهو مَن يدّعي ولهه بها "أحبّها بجنون" وتنازل عنها بجنون؟!! هذا النوع مِن الحب يحتاج مُسمّى آخر. • حافة الضياع: (ما زال متعلّقا بليلى وجسمها) دلالة الجملة توضح الكثير أو تصحح مفاهيم كثيرة، يحاول الكاتب أن يضع تحت الميكروسكوب. مفاهيم المجتمع المغلوطة، بأن جعل تغيّر حالة ليلى الإجتماعية مبررا لقبولها هي أو من شابهتها. الزواج من كبار السن كإعتياد نظرة المجتمع، يُسلط كاتبنا منظارا ليزريا في سرعة الأداء والإتقان لرصد الظاهرة، ثم يتجاوزها فورا، وكأنه عفوي الإشارة. تساؤل ليلى "هل كانت علاقتها بناجي علاقة حب؟!" وبقية التساؤل يُجيب عن غرابة تصرّف ناجي غير المحسوب. أوضح مبدعنا أن جَل همّها أصبح وجود الرجال صرعي كنوع مِن الإنتقام، رغم أن هذه طبيعتها الأساسية، كل ما حدث هو تماديها عن ذي قبل، فهل الخلل الذي أصبح لديها في المبادىء والقيم والعلاقات الخاصة بالعمل والتي تستغل فيها كل الحيل، هي أيضا مِن باب الإنتقام! تساؤل يحتاج إجابة تحليلية لتركيبة شخصيتها التي تراكمت بها وتداخلت عوامل متناقضة فأوجدتها على ما هي عليه. تذكّرنا الفكرة التي تدور برأسها "هناك امرأة تستطيع أن تستحوذ على الرجال بدرجة تفوقها" بالقصة في الأساطير "يا مِرايتي.. يا مِرايتي.. فيه واحدة أجمل مني؟) ويؤكد حرصها على تغيير مظهرها. إنها مهشّمة نفسيا وهشاشتها الداخلية مِن كثرة الشروخ أوشكتها على التهاوي، إنها تمسك بالمِعْول وتتهاوى به على جنباتها المعنوية، تجلد نفسها بطريقة أشبه ما تكون إيذاء الذات فقط ليس بأدوات مادية. إنه ليس إنتحارا لا مادي ولا معنوي، لأنّها مستمتعة بأدائها في الحياة، ولا تشتكي إلّا أن تكون في واجهة أي مشهد تتواجد فيه. • التحوّل: كثيرة هي المفردات اللغوية الموجزة التي تحتوي الكثير من المعاني (لعن الثراء المسروق من أعمار البشر). (كالشوك مغروسة في عُمري). كان تحليل كاتبنا لتحوّل شخصية سامي منطقيا، وبتتالي أحداث أدت لنتيجة. وكثيرة هي الصور البلاغية، من حيرة الأم بين زوج الضال والابن التائب، وحيرتها في منتصف النهر ليست بغارقة ولا ناجية. كاتبنا يوثّق المشاعر ببراعة تشريحيّة. • الهرم المقلوب: أصاب الكاتب بالتسمية وأورد أمثلة تجسّد المعنى، كل من بيده مال ونفوذ له سلطة، حتى ليلى لديها سطوة الجمال. وبدأ الكاتب يمهد ذهن القارىء لجديد في الطريق، بالصراع ما بين قلب ليلى في الخير. وعقلها المتمثل في مرافعاتها في الشر. التناول أداة جيدة التمهيد. • المعضلة الكبرى: "تمتلك قدرة نادرة على الوفاء لمن تحب"، "تريد الهروب من الإحساس القاتل بقتل خصال نبيلة" ما الدليل العملي على ذلك؟ إنها حتى لم تضع لاحترام أسرتها مكانة لديها. مهنة المحاماة مرآة نطل منها علي المجتمع الظاهري، كما هناك مهن كالمعالج والمُدعّم النفسي نطل منها على أغوار النفس البشرية دون رتوش، فنعرف كثيرا من الأسباب وراء السلوكيات المشوشة لشخصية مثل ليلى، وليس مجرد الموقف السردي ببداية الرواية، غير أنه كثيرا ما يؤثر موقف ما في جنوح عن الطريق السوي. يتوقف على شدة الموقف، وصلابة المتلقي له، ورصيد خبرته الأوّلية. تتعجب ليلى من أن "الأفاقين قتلوا فيها الأمان" ولكن هي مَن أعطتهم الأداة وسهّلت لهم ذلك. • الإعصار: تصوير رائع للطبيب اللاإنسان الرافض لإنقاذ جنين تتمناه أم بعد عدة محاولات لها سابقة للحصول على طفل، مقابل التخلص من جنين ليلى الفوري نظير المال، إنها طِباع نوعيّات من البشر، ستظل مضيا في الحياة بل ملامح. تصوير كاتبنا للضربات التي توالت على ليلى، أشبه ما يكون إمساكه بمطرقة تتهاوى على روحها لتحطّمها بلا رحمة. وكأنّه أراد أن يسلبها في فوْرة واحدة. سعادتها التي تذوّقتها دفعات بإستمتاع، كأنه يعطي قارئه درسا غير مباشر حتى لا يأمن ضربات القدر، ويصوّر ليلى مترنّحة بين الصفعات القدريّة، تماما كما كانت مترنّحة باللذات المتباينة، سواء الثروة أو تهاوي الرجال أو السلطة. • التصدّع والضياع: يتمثل تأرجح ليلى في جحيم تفكيرها ومشاعرها، بسلوك المتقلب بين الوعي والتيه، والمتأرجح بين الإسراف والإكتناز تصوير بليغ، كأنها ذبيحة تُشْوَى على جمر أحداث حياتها الآنية، تُبّلت جيدا للآكلين الطامعين. هؤلاء الطامعون الذين صوّرهم مبدعنا وكأنهم مازالوا يتعلقون بأستار كَعْبتها يَحْرقهم الشوق رغم أنها في منتصف العقد الخامس، وما كان لهم أن تجرفهم دوامات محيطها الأهوج؛ حتي وإن كانت رغبتها في الإنتقام مازالت يقظة، والمُلَاحظ أنها إن نعست فترة، فسرعان ما يصْحو غَفوَها فيها. • المعركة: يصور كاتبنا الصراع بين الإعتراف بالحب والإنكار بين ليلى وكمال، كما الصراع الأبدي والمعركة المستمرة بين الرجل والمرأة بإستمرار الحياة، وحاول أن يصور ببساطة الفارق بين كمال ومن سبقوه في الهدف. فالسابقون باسم الحب وصلوا لإشباع رغبتهم كهدف وكفى به، وكمال يحبها كحقيقة. • الحب الكبير: في هذه الفقرة التي تقترب من أبواب المفارقة يميل مبدعنا لإقرار بعض من حقائق، فقط للتذكِرة "المرأة تتعرض لتآكل طبيعي في الجمال والمظهر"، المرأة "لا يمنعها عن الغواية سوى نفسها"، ثم يبعث للقارىء رسائل تبشيرية: "تنفلت من سجن الآلام نحو رحابة الأمل"، "قيمة الحب إذا تعثر الإرتباط أن تكون طاهرا مع مَن تحب". إنها البداية هنا وليست النهاية. "تفتش عن نفسها" إن أهم ما يفعله أي إنسان أنه يتجوّل داخل ذاته حاملا مصباحه الليزري الضوء، ليبحث عن نفسه التي تركها وتاهت منه، وتاه منها، وقد يكون سعيد الحظ حين يعود لنفس المكان الذي تركها فيه؛ فيجدها قابعة في انتظاره. منتظرة إيّاه ليأخذ بيدها ويصحبها ليستردّها داخله، وهو لن يستطيع أن يفعل ذلك إلّا بمصاحبة معالجه النفسي الذي يساعده على فتح ملفاته وتبديد ظلامه الداخلي بإشراقة جديدة. مبدعنا بإنسيابية تدفّقية، بعث لنا هدْيا مِن رقيق الكلمات يهدهد مشاعرنا لكي يحظى بغفراننا لبطلته كل ما مضى، ونسعد بإشراقة نديّة روت جدب أيامها، كأنّه يريدنا أن ننحاز لبطلته ونتمني لها أن تهتدي لنفسها السويّة. وها نحن نقول: "لعل وعسى". يذكر أن رواية "العَنيدة والذئاب" للكاتب صلاح شعير، صدرت عن دار يسطرون للنشر والتوزيع بالقاهرة. فايزة حلمي ـ دكتوراه في علم النفس التربوي ـ مصر
مشاركة :