إفادة الدكتور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم كانت ركناً أساسياً في التحقيق الصحافي الذي كنت أجريه. وكما أخبرتكم في المقال ما قبل المقال السابق رحت أبحث عنه بعد أن استمعت إلى كل ما قاله يعقوب الرشيد عنه وعن الكتاب المتنازع عليه «نجديون وراء الحدود». قيل لي تارة إنه في لندن وقيل لي تارة إنه في الخرطوم. طلبت من الذين كانوا على معرفة به رقم تليفونه فاعتذروا بأنهم لا يعرفون رقم تليفونه ولا عنوانه على وجه التحديد. كان الدكتور محيي الدين اللاذقاني رئيس القسم الثقافي في جريدة «الشرق الأوسط» وقتذاك مطلعاً على مجريات تحقيقي الصحافي، فلقد كنت أخبره بما أحصل عليه من معلومات وما توصلت إليه من استنتاجات في تلك القضية، أولاً بأول. ولما قدّر أن الوصول إلى الدكتور عبد العزيز، لأخذ إفادته متعذر، قرّر نشره. ورأى أنه بعد النشر من المحتمل أن يوافي الدكتور عبد العزيز الجريدة برده الإيضاحي.انتظرنا أن يوافينا الدكتور عبد العزيز بردّه الإيضاحي، لكنه لم يفعل مع أني في الحلقة الثالثة والأخيرة من التحقيق استحثثته كثيراً أن يدافع عن نفسه إلى حد الاستفزاز.وكان من اللافت أن تتصدى إحدى أخواته – لا هو – للدفاع عنه! فبعد ما يدنو من شهرين من نشر تلك الحلقة، نشر في «بريد الشرق الأوسط» رسالة مرسلة باسم نادية عبد الغني إبراهيم فكرون – فكرون اسم جدّهما الثالث، ونادية ترتيبها بين أخواته الثالث – من مدينة عنيزة بمنطقة القصيم، ورد فيها ما يلي:- أبراز ثلاثة تناقضات وقع فيها يعقوب الرشيد في اللقاء الذي أجريته معه. ويسعني من واقع ذلك اللقاء الذي أجريته معه، القول: إن عدد التناقضات كان أكثر مما ذكرته السيدة نادية في رسالتها، وإن التناقضات كانت بارزة ولم تكن بحاجة إلى إبراز. لأن اللقاء كان مبنياً على إبراز تناقض دعاوى يعقوب الرشيد بأنه مؤلف كتاب «نجديون وراء الحدود» وإظهار تضارب أقواله وضعف حججه ووهنها.- تناول خطاب الإقرار الذي كتبه الدكتور عبد العزيز على نفسه بأنه تسلم مبلغ عشرين ألف ريال مقابل جميع أتعابه عن كتاب «العقيلات عبر القرون». فقالت في تناولها لهذا الأمر: «أما الإقرار ففي يقيني أنه إحدى تضحيات الدكتور عبد العزيز من أجل خروج العمل إلى النور – تضحية ولا ريب سببت له ألماً نفسياً مريعاً وهو الذي عرف بشدة اعتزازه بنفسه وقلمه، ولا أرتاب للحظة واحدة في أن هناك ملابسات معينة قد اكتنفت هذا الإقرار. ولعلي قادرة على استنتاجها ولكني لن أفعل، فالكشف عن هذه الملابسات من حق عبد العزيز وحده».كنت قد طلبت من يعقوب الرشيد أن يزودني بأصول الكتاب بخط يده، وأن يطلعني على مصادر ومراجع الكتاب التي في حوزته، وأن يرشدني إلى أماكنها في المكتبات العامة حيث استفاد منها، فأهمل تحقيق مطلبي هذا، وفي لقائي معه المنشور في الجريدة أعدت طرح هذا المطلب عليه في سؤال من الأسئلة فقال: «سلم هو - يقصد الدكتور عبد العزيز - مسودتي إلى الطابع، ولم ترجع لي حتى الآن». فسألته: هل تتهمه – أيضاً – بسرقة المسودة التي بخط يدك؟ فقال: «أتهمه بسرقة كل شيء»!السيدة نادية استناداً إلى إجابتيه هاتين، قالت - بعد أن اعتذرت عن الكشف عن ملابسات معينة اكتنفت كتابة أخيها الإقرار -: «لكنني فقط أتساءل كيف فات الدكتور عبد العزيز أن يسرق هذا الإقرار، وهو الذي برع في براعته في التأليف حتى إنه سرق مسودة الكتاب؟».تساؤلها هذا كان تساؤلاً هازئاً بإجابتيه السابقتين. أعقبته بتساؤل آخر – وهي تتحدث عن الإقرار - قالت فيه: «ألم تكن هناك صيغة أخرى أكثر تحديداً من صيغة (عن كتاب العقيلات) التي تضمنها الإقرار. هذا إذا كان الدكتور قد قام فعلاً بعمل محدد صغير، كلّفه به المدعي لقاء عشرين ألف ريال، على الرغم من أن العلماء يعرفون جيداً أن العقول والأقلام لا تؤجر؟».ثم أضافت قائلة: «ولا يفوتني في آخر هذا الحديث أن أقول: إن عبد العزيز قد غادر المملكة لأسباب عائلية وشخصية بحتة! أعلمها حصر العلم»، وهذا القول جاء رداً على ادعاء يعقوب الرشيد بأن الدكتور عبد العزيز غادر السعودية نهائياً، ليوظف كل المعلومات التي حصل عليها منه، بنشر كتاب عن الموضوع ذاته، ظناً أنه قد أفلت من فعالية الأنظمة والقوانين في السعودية.وقالت في ختام رسالتها: «أنا لا أرتاب للحظة واحدة في أن العمل للدكتور عبد العزيز، وأنه أحبه وانفعل به وعاش كل تفاصيله ومعاناته، بل إنني عشت جزءاً من هذه التفاصيل. والكتاب بكل المقاييس إحدى فلذات كبد عبد العزيز الذي عرف بنجابة الأبناء».كنت أميل - وما زلت - أن كاتب هذه الرسالة هو الدكتور عبد العزيز وأنه قد اختفى فيها خلف اسم أخته. أميل إلى هذا لتوفر شواهد عدة تشير إلى ذلك. ومن بينها - وهو ما يهمنا في هذا السياق - إظهار علمها بموضوع الإقرار الذي كتبه أخوها على نفسه وعدم إنكاره أو نفيه، مع أن هذا الإقرار شأن خاص وسري بين أخيها وبين يعقوب الرشيد، وكلاهما كان حريصاً على ألا يعلم بأمره أحد، مهما كانت درجة قربه منهما، لأن الإقرار كان سيئاً لكليهما. ويعقوب أشهر هذا الإقرار مضطراً، وسأشرح هذه المسألة فيما بعد.وأكثر من هذا أنها تعلم - من وجهة نظرها أو وجهة نظره - السبب الذي دفعه إلى كتابة الإقرار، وهو أنه أراد أن يخرج كتابه عن العقيلات إلى النور. معتبرة ما فعل تضحية من تضحياته.وفي تقديري أنه بعد أن أنهى كتابة تلك السطور التي شرحناها، تنبه إلى أن الرسالة مكتوبة باسم أخته نادية لا باسمه، فجزم بأن ثمة «ملابسات معينة» تكتنف الإقرار، جزم بذلك «استنتاجاً» لا عن «معلومة» كما في السبب الذي دفعه إلى كتابة الإقرار. لأنه - كما قلنا - تنبه أن القائل نادية لا عبد العزيز. ويعرف الدكتور عبد العزيز أن ما هو مبني على استنتاج أو تخمين أو حدس، لا تتناسب معه صيغة الجزم، وقد خالف هذا الأمر، لأنه كان يتحدث بحرقة ومرارة وكرامة مجروحة، وهو ما أومأ إليه على لسان أخته في سطر سابق. تلك «الملابسات المعينة» رغم أنه أو أنها قادرة على «استنتاجها» لكنها لن تفعل. لماذا؟ لأن «الكشف عن هذه الملابسات من حق عبد العزيز وحده»!ونسيت أو نسي أنه قد كشف عن ملابسة واحدة من تلك «الملابسات المعينة»، وهو أنه فعل ما فعل تضحية ليخرج الكتاب إلى النور. وليس في هذا الكلام كله ما يفسر لنا: لماذا عرفت نادية بهذه «الملابسة» عن أخبار وعرفت ببقية «الملابسات» عن طريق الاستنتاج؟!ولماذا تجوّزت في ذكر الأولى واعتبرت أن من حقها أن تذكرها واستحرمت ذكر «بقية الملابسات» واعتبرتها ضمن الحق الخاص لأخيها الذي لا يجوز لأحد سواه أن يتحدث فيه حتى لو كانت أخته؟! ولماذا تكتب هذه «الملابسات المعينة» مع أن فاتحتها - كما كشفت - كانت تضحية؟!كذلك وشى بنفسه عندما أشار إلى ما انطوى عليه الإقرار من عمومية وخلو من التحديد، فهذه ليست قراءة، وإنما أخبار من الذي قام بصياغة الإقرار وتعمد أن يكون على هذا النحو.وما قاله يعقوب في تفسير مغادرة الدكتور عبد العزيز السعودية إلى الخرطوم في أول الأمر لا أصل له، وإنما قال ما قاله لتكريس صورة زائفة عنه، وهي صورة المتآمر والخائن والغادر لعلها تساعده في زعمه أنه هو مؤلف الكتاب الحقيقي. فالدكتور غادر السعودية نهائياً لأن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لم تجدد له عقده. ومعنى هذا أنه لم يغادرها باختياره. وذكر هذه الحقيقة - في اعتقادي - كان كفيلاً بإسقاط تفسير يعقوب التآمري، المُفْترى والمتجني.جزئياً وعلى نحو يسير أهمية تلك الرسالة التي تحمل اسم أخته نادية، أنها قدمت وجهة نظر الدكتور عبد العزيز في القضية التي كان - ولا يزال إلى الآن - يتهرب من مواجهتها. ووجهة النظر هذه ستساعدنا على إضاءة خفايا هذا الإقرار ودافع الدكتور عبد العزيز إلى كتابته. وللحديث بقية.
مشاركة :