كثيرٌ من الروايات العربيّة لم يكن النجاح ليحالفها لولا عبقريّة بعض المخرجين الأفذاذ وحساسيّتهم المرهفة.العرب بهاء بن نوار [نُشر في 2018/01/28، العدد: 10883، ص(14)]كثير من أعمال محفوظ راج بفعل السينما "لو كان شكسبير حيّا إلى اليوم لتحوّل إلى كتابة المسلسلات التلفزيونيّة" (ميلان كونديرا). الرواية العربيّة والسينما: العلائق والتواشجات يعدّ عصرُنا الحاليّ عصرَ ثقافة الصورة بامتياز حيث اجتاحت هذه الأخيرة أغلب فضاءات التلقي وفرضت سلطتها على عديد الوسائط والمجالات الإبداعية والفنيّة وهذا نتيجة تطوّر التكنولوجيات الحديثة وتنامي صناعة الصورة والصوت، وكذا تطوّر ذائقة المتلقين واتجاه أغلبهم وفي غمرة ما يعرفه زمننا من سرعةٍ وحركيّة ونزعات استهلاكيّة نحو اقتحام مجالات المرئيّ/المسموع وعزوفهم الجزئيّ أو الكليّ عن الاكتفاء بعالم الكتب الشاق والمجهِد والمتطلّب حدودا عليا من التفرّغ والتركيز؛ فما كان من المحتّم تلقّيه بعد ساعات طويلة من المكابدة والاعتكاف أصبح سهلا جدّا تلقيه في ساعتيْن أو أقلّ، وما كان لا بدّ من إعمال العقل والخيال في سبيل التقاطه أصبح متاحا جدا عبر الصورة والألوان والموسيقى والأنغام، وهذا خصوصا “بعد أن أصبح الفنُّ السابع ‘السينما’ وأولاده ‘التلفزيون والفيديو’ غذاءً يوميّا لكلّ البشر، وقد خلق وضعا جديدا احتلّت فيه العناصرُ المرئيّة بؤرةً حافزةً في تكوين المتخيّل بحيث تعزّزت بطريقةٍ حاسمةٍ ثقافة العين وفرضت نتائجها على تقنيات التعبير الفنيّ”. (صلاح فضل، “الأسلوب السينمائيّ في شعر أمل دنقل”، ضمن كتاب: دراسات نقديّة في أعمال السياب، حاوي، دنقل، جبرا، مجموعة من الباحثين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت، ط1، 1996، ص: 99). وكانت بداية هذا الانفتاح البصَريّ بداهةً غربيّة الاتجاه لتنتقل إلى ثقافتنا العربيّة التي كانت مصر سبّاقةً إليها، وهذا منذ بدايات القرن العشرين، التي شهدت إقبالا جماهيريّا واسعا على فنّ السينما كانت نتيجته تشييد دورٍ عدّة لها، واستيراد مئات الأعمال العالميّة التي تُعرَض بشكل دوريّ وتستقطب فئات كبيرةً من المتلقين، ليستمر هذا الاهتمام في تصاعده من سنة إلى أخرى وينتقل تدريجيّا إلى مرحلة الإنتاج المحليّ؛ “ففي الفترة من 1945 إلى 1951 مثلا ارتفع متوسط إنتاج الأفلام كلّ سنة إلى 50 فيلما، وبلغ عددُ الأفلام 341 فيلما، أي نحو ثلاثة أضعاف الأفلام المصريّة منذ عام 1927، ووصل عدد دور العرض إلى 244 دارا عام 1949، وعدد الأستوديوهات إلى خمسة وفيها أحد عشر بلاتوه”. (جان ألكسان، السينما في الوطن العربي، عالم المعرفة 51: الكويت، مارس 1982، ص: 21). ورغم جدّة هذا الفنّ، وتعثره الفنيّ زمن البدايات الأولى بسبب قلة الخبرة، وتواضع الإمكانات، فقد تمكن تدريجيّا من أن يوطّد مكانته في نفوس المشاهدين، بل استطاع أن ينافس فنّا جماهيريّا عريقا آخر هو المسرح، وأن يتفوّق عليه، فكان أن “تأثر المسرح المصريّ بسبب إقبال الجمهور على الأفلام المصريّة واضطرت فرقٌ كثيرةٌ إلى إغلاق أبوابها بعد أنْ تحوّل أصحابُها وأعضاؤها إلى السينما أمثال فوزي الجزايرلي وعلي الكسار ومنيرة المهديّة وفاطمة رشدي ويوسف وهبي” (المرجع نفسه، ص: 31) “بل إنّ كثيرا من المسارح تحوّلت إلى دور سينما استجابةً لذوق الجمهور وانسجاما مع رغباته” (المرجع نفسه، الصفحة نفسها). وتماشيا مع ما عرفته السينما العالميّة من تنامي ظاهرة اقتباس الأعمال الأدبيّة وتحويلها إلى أفلام سينمائيّة فقد تنامت هذه الظاهرة في السينما العربيّة كذلك والتي شهدت منتصف القرن الماضي وما بعده “الاتجاه إلى قصص الأدباء المعروفين، فظهرت على الشاشة قصص ‘ظهور الإسلام’ و’دعاء الكروان’ للدكتور طه حسين، و’درب المهابيل، بداية ونهاية، وزقاق المدق’ لنجيب محفوظ، و’إنّي راحلة، ردّ قلبي، بين الأطلال، أم رتيبة’ ليوسف السباعي، و’الرباط المقدس′ لتوفيق الحكيم، و’الناس اللي تحت’ لنعمان عاشور، و’إسلاماه’ لعلي أحمد باكثير، و’لا وقت للحب’ ليوسف إدريس، و’غصن الزيتون، وشمس لا تغيب’ لمحمد عبدالحليم عبدالله” (جان ألكسان، المرجع السابق، ص: 55). ورغم الاختلاف الجوهريّ بين كلٍّ من الأدب والسينما من حيث بنية كلٍّ منهما وأسلوب تلقيه وجوهر تكوينه، فقد كانت العلائقُ بينهما على غايةٍ من العمق والثراء، فكانت السينما وإلى غاية أيامنا هذه خيرَ ما يعتمد عليه الأديبُ/الروائيّ في سبيل الانتشار الواسع والحصول على أكبر قاعدة شعبيّة ممكنة تضمن لأعماله البقاءَ والرسوخَ. وقد تضخّم هذا الاعتماد إلى حدّ تجاوز معه كونه مجرد وسيلة ليغدو غايةً متوخاةً لذاتها، فأصبح اقتباسُ الأعمال وتحويلها إلى مجال الفنّ السابع واحدا من أقصى ما يمكن أن يطمح إليه أيّ كاتب، مثله مثل الطموح نحو الترجمة إلى لغات عالميّة، ممّا يثير أسئلتنا حول مدى ما يحققه هذا التحويل من أثر إيجابيّ قد تنفتح معه أبوابُ العالميّة واسعةً أو قد تحتفظ به الذاكرة الجمعيّة/المحليّة في أقلّ تقدير، ولا يُلقى في دوائر النسيان والإهمال وهو ما يمكننا استجلاؤه من خلال ما يأتي:رغم الاختلاف الجوهري بين كل من الأدب والسينما من حيث بنية كل منهما وأسلوب تلقيه وجوهر تكوينه، فقد كانت العلائق بينهما على غاية من العمق والثراء السينما بابا للعالمية ليس عبثا أن تحظى الأعمال السينمائيّة بقدر كبير من الشعبيّة وأن يشكل متلقوها الشقّ الأكبر من جمهور المتلقين، وهذا لعدّة خصوصيّات تميّزها وتطبع خطابها كاعتمادها على الصورة والصوت مادةً ووسيطا تفاعليّا تنتقل بهما ومن خلالهما جملة الأحداث والأفكار والشحنات الانفعاليّة لترسّخ في ذهن المشاهد ووجدانه وكارتكاز أجزائها ومقاطعها على حضور نجومٍ يحظون بقدر عالٍ من الشعبيّة والشهرة والمحبة العارمة، فتحظى كثيرٌ من الأعمال بنجاحٍ عالٍ لا لفنيّتها العالية ولا لحبكتها المحكمة، ولكنْ لكون النجم الفلاني أو النجمة العلانيّة هو/هي مَنْ يلعب دورَ البطولة فيها. وأيضا لطبيعة أسلوب تلقيها ذي الطابع الجَمعيّ، حيث يتجمّع عشراتُ الأفراد في مكان واحدٍ وزمنٍ واحدٍ لمشاهدة العمل، والتأثر بأجوائه والتماهي مع أحداثه، ممّا يبدو قريبا جدا من أسلوب تلقّي المسرح الذي تُعدّ المشاركة الجماعيّة عنصرا مهمّا من عناصر نجاحه وتأثيره. إلى جانب لغة الإلقاء التي غالبا ما تكون عاميّةً منسجمةً مع خصوصيّة المتلقين الذين غالبا ما يشكلون النسيجَ الشعبيّ المهيمن، وغالبا ما يكونون -وبالعودة إلى خصوصيّة مجتمعاتنا العربيّة- محرومين من التعليم أو في الأقل متواضعين في مستوياته، ممّا يجعل من الخطاب الدارج أنسب خطابٍ لعقولهم ووجدانهم. وإذا أضفنا إلى هذا كلّه بريقَ الجوائز والمهرجانات المحليّة والعالميّة فسيبدو لنا حجمُ الإغراء الذي يستجلبه هذا الفنّ الحديث والذي من الصعب جدا الإحاطة بجميع مظاهره وتحدّداته، وإن كان من الممكن اختصار بعضها فيما يأتي: لعلّ من المناسب في هذا المقام أن نبدأ بأول رواية أصّلت لجنس الرواية العربيّة عندنا، وهي رواية “زينب” التي توجّس صاحبُها بدءا من نشرها باسمه الحقيقيّ، فنشرها باسمٍ مستعار سنة 1914، ولم يلبث المخرج محمد كريم أن تجرّأ على اقتباس قصتها وتحويلها إلى فيلم سينمائيّ صامت عُرض سنة 1930، وحقّق نجاحا هائلا وغير متوقّع. وبعد هذا النجاح الكاسح تجرّأ الكاتبُ أخيرا على إعادة نشر العمل وتذييله باسمه الحقيقيّ دون أيّ توجّس أو خوف، ممّا يحيل بجلاءٍ إلى الأثر الطيب الذي يتركه الاقتباس السينمائيّ، ويؤثر في حركيّة الأعمال الأدبيّة، فلولا نجاح الفيلم لما نجحت هذه الرواية، ولما تجرّأ الكاتب على منحها شرعيّة الوجود بتبنّيها ونسبتها إلى اسمه.وإلى جانب هذا المثال الساطع يمكننا أن نستشهد بمثال آخر تبدو معه كثيرٌ من الأعمال الأدبيّة رغم شهرتها وريادتها باهتةً لدى اكتفائها بخطابها الأدبيّ لتبلغ أوج التوهّج والتأثير حالما تتحوّل إلى صورة وصوتٍ: إلى سينما، كرواية “الأرض” لعبدالرحمن الشرقاوي التي حوّلها المخرج العالميّ يوسف شاهين إلى فيلم بالعنوان نفسه سنة 1970، وتمكّن بعبقريّته الإخراجيّة من جعل مشهدها الأخير: مشهد سحل “محمد أبو سويلم” (محمود المليجي) واحداً من أقوى المشاهد السينمائيّة، لا على مستوى السينما العربيّة فحسب، بل على مستوى السينما الأجنبيّة أيضا (كمال رمزي، “السينما المصريّة؛ المخرجون”، ضمن موسوعة: الثقافة العربيّة في القرن العشرين؛ حصيلة أوليّة، مركز دراسات الوحدة العربيّة: بيروت، ط1، 2011، ص: 1214). فالسينما هنا تعاضدت مع الأدب وكانت خيرَ جناح يحلق به ويقتحم وعي الآخر ووجدانه. كثيرٌ من الروايات العربيّة لم يكن النجاح ليحالفها لولا عبقريّة بعض المخرجين الأفذاذ وحساسيّتهم المرهفة، فهذا هنري بركات على سبيل المثال يضطلع بتحويل أشهر أعمال مجايليه من الكتّاب من أمثال طه حسين وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس ولطيفة الزيات وغيرهم، ويستطيع “بحساسيّة أسلوبه وذوقه المرهف، وخبرته العميقة إكساب هذه الروايات شعبيّةً هائلةً؛ فهو لم يقدمها في أفضل إطارٍ ممكن وحسب، بل تعامل معها بإيجابيّة أيضا، وأضاف إلى واقعيّتها لمسةً شعريّةً” (المرجع نفسه، ص: 1203- 1204). وما تزال ذاكرتنا الشعبيّة تحتفظ بمشاهد كثيرة من هذه الأفلام سواء حظينا بقراءتها أعمالا ورقيّةً أم لم نحظ أسوةً بالطابع الغالب على معظم المتلقين العرب.السينما للرواية تشبه الجناح للطائر وإلى جانب هذا، يمكننا إضافة ما تحدثه المشاركات في المهرجانات العالميّة من أثرٍ باهرٍ على انتشار هذه الأعمال وولوجها أبوابَ العالميّة، ومثال ذلك تجربة بركات الذي “شارك في مهرجان كان بفيلم ‘الحرام’ عام 1965، ومهرجان برلين بفيلم ‘دعاء الكروان’ في عام 1959، ومهرجان نيودلهي بفيلم ‘في بيتنا رجل’ عام 1961. وتجربة صلاح أبوسيف” الذي كان أول مَن قدّم روايةً لنجيب محفوظ سينمائيا، حيث اقتبس رواية ‘بداية ونهاية’ سنة 1960، وشارك بها في مهرجان موسكو، ليحصد نجاحا مذهلا (المرجع نفسه، ص: 1204). وغير خافٍ ما تتركه مثل هذه المشاركات من أثر إيجابيّ وإسهامٍ فاعلٍ في وصول هذه الأفلام، وبالتالي مرجعيّاتها الأدبيّة، وهي الروايات، إلى المتلقي الغربيّ، ممّا يمنحها فرصا عاليةً من الانتشار، والتوغّل بعيدا في وعي أكبر قدر من الشرائح الاجتماعيّة والإنسانيّة. إلى جانب ما تستجلبه المشاركات الفاعلة في المهرجانات العالميّة من فرص انتشارٍ واسعٍ وتأثيرٍ عميقٍ، فإنّ في فوز بعض هذه الأفلام أو فوز بعض أبطالها بجوائز تلك المهرجانات أثرا كبيرا في زيادة الإقبال على مشاهدتها، وبالتالي شهرتها وعالميّتها، فكما حصد الفيلم الفلسطينيّ “الجنة الآن” لهاني أبوأسعد خمس جوائز عالميّة مهمّة: [جائزة مهرجان برلين/جائزة الفيلم الأوربي/جائزة العجل الذهبي في هولندا/جائزة الجولدن جلوب/ جائزة مهرجان دوربان للسينما العالمية في جنوب إفريقيا] في سنة واحدة هي 2005 (المرجع نفسه، ص: 1206)، وكما انتزع فيلم “فجر المعذبين” للجزائريّ أحمد راشدي الجائزة الأولى في مهرجان لايبزغ سنة 1965 (ينظر مادة: الجنة الآن: www/wikipedia/org) حصلت أفلامٌ كثيرةٌ مقتبَسة من روايات عربيّة معروفة جوائز كبرى وتقديريّة كثيرة كان لها الأثر في زيادة شهرة تلك الأعمال وأصحابها، ومثال ذلك “الأفيون والعصا” المقتبَس من رواية الأديب مولود معمري بالعنوان نفسه، والذي يُعدّ واحدا من أشهر الأفلام الجزائريّة، وأنجحها، وتشهد على ذلك ديمومة عرضه في مختلف دور العرض العالميّة، وحساسيّة القضيّة التي يطرحها وهي قضية نضال الشعب الجزائريّ وانتفاضته ضدّ المحتلّ، وهو ما يصدق أيضا على فيلم “وقائع سنين الجمر” من إخراج محمد الأخضر حمينا سنة 1974، الذي شارك رشيد بوجدرة في كتابة السيناريو له، وإعداد الحبكة، وفاز بجائزة السعفة الذهبيّة في مهرجان كان سنة 1975 (محمد نورالدين أفاية، “بانوراما السينما الجزائريّة في القرن العشرين”، ضمن موسوعة: الثقافة العربيّة في القرن العشرين؛ حصيلة أوليّة، ص: 1242). ومثله ما تمّ من تتويج الممثل الجزائريّ سيد علي كويرات بجائزة أفضل ممثل لدوره في فيلم “المشكوك فيهم” للمخرج كمال دهان في مهرجان السينما الأفريقيّة بواقادوقو سنة 2005، ممّا أسهم في إثارة فضول المتلقين للاطلاع على المرجع الأدبيّ لهذا العمل الذي لم يكن سوى اقتباس عن قصة للأديب طاهر جاووت (أحمد بلية، “السينما الجزائريّة؛ الواقع والآفاق” ضمن كتاب: قضايا السينما العربيّة، كتاب العربي93: الكويت، ط1، 2013، ص: 132 - 133). ولعلّ من أهمّ جوانب تأثيرات السينما في عالميّة الأعمال الأدبيّة والارتقاء بها إلى مصاف الآثار الإنسانيّة الخالدة تجربة نجيب محفوظ الرائدة في هذا المجال، الذي لم يكن مجرد كاتب حظيت أعماله بشعبيّة وإقبال فحُوّلت إلى أفلام سينمائيّة إرضاءً لذوق الجماهير وتماشيا مع رغباتها، بل لقد أقدم بدوره على كتابة عديد السيناريوهات والمعالجات الدراميّة عن أعماله أو عن أعمالٍ مخصّصة أصلا للتلقي السينمائيّ. وغير خافٍ ما تعنيه هذه الشواهد وغيرها من أثر بالغٍ تضفيه السينما وشاشاتها العملاقة على قوة حضور كثيرٍ من الأعمال الأدبيّة التي اجتهد مبدعوها كثيرا في صقل أجزائها وشحذها وتجويدها بأساليبهم الفنيّة المشرعة وحساسيّتهم المرهفة، فكان أن نالت قسطا وافرا من الشهرة والنجاح، وارتسمت في ذاكرة آلاف القراء الذين تلقوها ورقيّا واضطلع خيالُهم بملء ثغراتها، وإفعام فجواتها، غير أنّه يظلّ نجاحا نسبيّا وجزئيّا إذا ما قيس بذلك الانتشار الدافق الذي يضفيه كلٌّ من الصورة والصوت، وذلك الإغراء الذي يفيض من شبابيك التذاكر وبوسترات الأفلام وطلات النجوم وأضواء المهرجانات. وهو كبقيّة الإغراءات الأخرى يفيض بالمقامرة والخطر ويستجلب معه أوجها أخرى نقيضة يمكن استجلاؤها فيما يأتي:لعلّ من أهمّ جوانب تأثيرات السينما في عالميّة الأعمال الأدبيّة والارتقاء بها إلى مصاف الآثار الإنسانيّة الخالدة تجربة نجيب محفوظ الرائدة في هذا المجال السينما مطية للتشويه لعلّ أول مظاهر التشويه القائم أو المحتمَل الذي يستجلبه الاقتباسُ السينمائيّ يكمن -فضلا عن تلك المجازفة التي تستدعيها عمليّة إقحام مجاليْن إبداعيّيْن مختلفيْن: مجال الكتابة ومجال الصورة في بعضهما ودمجهما معا- في ذلك البريق الماديّ الذي تجرّه عوالمُ السينما وأجواؤها، فهي إلى جانب كونها فنّا وإبداعا ومكابدةً صناعةٌ مربحةٌ بقدر ما هي مكلفةٌ، وكما يحصل الممثلون فيها على أجورهم الغالية أصبح الكاتبُ أو صاحب النصّ الأصليّ يحصل على أجره أيضا. وغير خافٍ ما يستدعيه هذا التطور من تأثيرات متناقضة؛ فهو من جهةٍ تحفيزٌ ماديّ يستحقه الكاتب وتعويضٌ عن الإجحاف الذي قد يلاقيه جراء الكساد المزمن الذي تعانيه سوق الكتب، ولكنّه من جهةٍ ثانيةٍ لا يخلو من شبهات إغرائيّة، فيغدو غايةً بدل أن يكون وسيلةً، ويجرّ كثيرا من الروائيّين الناجحين إلى التورط في متاهات الإكثار والإسفاف إرضاءً لذائقة العامة، ولهثا وراء الظهور ومجاملةً لقوانين العرض والطلب المجحفة في حق الإبداع والمتعارضة غالبا معه. وهو في رأيي الإشكالُ الجوهريّ الذي تستدعيه عمليّة الاقتباس السينمائيّ، حيث على صنّاع السينما أن يوازنوا -دون مصادرة جهود الكاتب- بين مجاليْن مختلفيْن وإن كانا متكامليْن: مجال القراءة الحبريّة بما تتضمّنه من خصوصيّات تلقٍّ يستدعي حدّا أعلى من التركيز وشحذ الخيال، ومجال المشاهدة السمعيّة البصَريّة بما تتطلبه من تركيز أقلّ حدّةً من الأول، وخيالٍ أقلّ شحذا لأنّ سلطة الصورة والصوت تكفلت بملء فجوات النصّ الأصليّ، وبالتالي سدّ المنافذ أمام خيال المتلقي وحريّته في تخيّل الشخوص والأماكن. فضلا عن تنقل هذا الاقتباس أو الترجمة البصريّة بين جمهوريْن من المتلقين: متلقي الكتاب المنتمين غالبا إلى فئة المثقفين أو في الأقلّ المتعلمين، ومتلقي الفيلم الأقل نخبويّةً والأكثر شعبيّةً، والذين غالبا ما لا يكونون قد قرأوا العمل المكتوب أو اطّلعوا على خفاياه، ممّا يحتّم ضرورة التباين والاختلاف في مستوى الخطاب بين ما يُوجّه إلى قرّاء نخبويّين/مثقفين، وما يُوجّه إلى مشاهدين عامّين/شعبيّين. وهذا ما يعكس جوهر الإشكال وإغراءاته: عمل مكتوب ومكتفٍ بكونه كذلك وبقرّائه النخبويّين الانتقائيّين، وعمل آخر سينمائيّ منفتح على مزيد من القراء نخبويّين كانوا أم شعبيّين، ومقتربٍ من آفاق الشهرة الكاسحة والعالميّة: هنا مكمن المخاطرة وموضع الرهان، وعلى الكاتب أن يختار ما يراه جديرا بفنّه وإبداعه. كاتبة من الجزائر ينشر المقال بالاتفاق مع "الجديد" الشهرية الثقافية اللندنية
مشاركة :