في مطلع عام 2018 تستمرّ الحلقة المفرغة للتنظيمات المتطرفة التي يصعب اجتثاثها بشكلٍ تام، يتقدّم تنظيم إرهابي فيما يتراجع آخر وهكذا دواليك. ففي الحين الذي تدهورت فيه قدرات «داعش» التنظيمية والعسكرية بشكلٍ كبير نتيجة انكباب الجهود الدولية للتخلص من وجوده الفعلي في العراق وسوريا، يسعى تنظيم القاعدة للنهوض من جديد واستقطاب المتطرفين من مختلف أنحاء العالم من أجل ضمّهم للتنظيم بقالبه الجديد. تظهر مساعٍ نحو استرداد نفوذ تنظيم القاعدة من خلال الترويج لنجل مؤسس التنظيم حمزة بن لادن الذي يمتلك جاذبية ونفوذاً وشعبية قد تفوق تلك التي يمتلكها زعيم القاعدة أيمن الظواهري الذي خفت وهج التنظيم أثناء زعامته ليصبح أشبه بالجعجعةٍ دون تأثير عمليّ، وقد كانت خطابات الظواهري أكثر تأثيرا كرجلٍ ثانٍ في التنظيم في فترة قيادة أسامة بن لادن لـ«القاعدة»، وذلك يعود إلى قوة سيطرة التنظيم في ذلك الوقت قبل أن يحصل «داعش» على اهتمام العالم، سواء من خلال تهافت المنضمين أو محاربة السلطات الدولية له على اعتبار أنه العدو الأبرز. ويتأرجح مستقبل هيمنة التنظيمات المتطرفة ما بين «القاعدة» و«داعش»، ففي الوقت الذي انهمك فيه التحالف الدولي بمهاجمة تنظيم داعش سعت القاعدة جاهدةً إلى استنهاض قواها وإعادة بريقها من جديد. تلك المؤشرات بدأت في السنوات الأخيرة للتنظيم إذ بذل جهوداً مضنية من أجل التسويق لحمزة بن لادن، وقد أدرجت السلطات الدولية اسمه بوصفه «إرهابياً دولياً»، ليصبح هناك احتمال جعله الوجه الجديد للتنظيم متبعاً خطى والده كشخص مؤهل للقيادة بتشبعه بمبادئ «القاعدة» وطموحه منذ صغره الانضمام لمعاركها، إذ أكد ذلك مراراً لوالده، وقد أثار حمزة موت ابنه «أسامة» أخيراً ليؤكد على سعيه إعادة مجد «القاعدة»، وإن أكدت هذه الحادثة أفول وتلاشي التنظيم بموت حفيد أسامة المسمى باسمه. في عام 2015 قدّم الظواهري حمزة بن لادن في تسجيل مرئي على اعتبار أنه بمثابة «ولادة أسد من عرين (القاعدة)»، وذلك ما يؤكد التوقعات حول وجود مخططات لـ«القاعدة» لاستغلال ذلك من أجل إبراز المظهر الجديد للتنظيم عبر وجه يافع طموح متحدث بإمكانه استقطاب مجندين من جيل الشباب ممن سمعوا بتاريخ أسامة بن لادن الأسطوري في عالم التنظيمات المتطرفة، الأمر الذي يتيح الفرصة لابنه كوريث للتنظيم أو كمتحدث باسمه ينهض به، ويعيد قولبته بما قد يتناسب مع متطلبات العصر الحديث، من أجل التمكن من التغلب على تنظيم داعش الذي طغى وجوده على الساحة بالأخص في بداياته، واتخاذ نهجه، من حيث الوصول إلى المستقطبين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والقدرة على التغلغل للآخرين، وإن تشددت السيطرة على العالم الإلكتروني وأصبح من الصعب تكثيف الوجود الإلكتروني للتنظيمات. وقد ظهر حمزة بن لادن في تسجيل صوتي بثته مؤسسة «السحاب» التابعة للتنظيم في 13 مايو (أيار) 2017، محاكياً والده في نبرة صوته وأسلوب حديثه مما قد يعزز من قدرته على التأثير على الآخرين. وقد شدد بن لادن في ذلك المقطع على أهمية تكثيف العمليات التي تستهدف الغرب على اعتبارها من أعظم القربات وأجلّ العبادات، وذلك على نسق العهد الأولي للتنظيم، كما دعا أعضاء التنظيم بالثأر للمسلمين في العالم من خلال تحريضه على مهاجمة اليهود والأميركيين والغربيين وحتى الروس. وفي ذلك استدلال على أن يسعى حمزة بن لادن لأن يتخذ نهج والده وتنظيم القاعدة بشكل عام في تكثيف رسائله الإعلامية وخطاباته الموجهة للجمهور وإحاطة نفسه بهالة إعلامية قوية يتم عبرها استغلال قدرته على الإقناع والتأثير. وإن كانت المفارقة في نهج حمزة بن لادن في حثّ «الذئاب المنفردة» على تولي مهام الهجمات الإرهابية، وهو النسق ذاته الذي ينهجه تنظيم داعش، أو ما يشبه «حرب الوكالات للتنظيمات المتطرفة»، من خلال التحريض على القيام بهجمات عن بُعد، دون الحاجة إلى الوجود الجسدي في المكان ذاته. مما يختلف عن سبل والده في التخطيط التفصيلي من أجل تحقيق أهداف استراتيجية، إذ يركز حمزة هنا على مهاجمة «الآخر» الغربي الكافر دون اكتراث لماهية الطرق أو الأسلحة أو عدد المستهدفين، الأمر الذي يؤكد ما ذاع عن وجود خلاف ما بينه وبين القياديين الآخرين في التنظيم بمن فيهم الظواهري، سواء كان هذا الخلاف في استراتيجياته وأهدافه بالأخص، وأن العمليات العشوائية التي ينتهجها الأفراد تقلِّل من مدى أهمية الهجمات وتجعلها متخبطة عشوائية، بغض النظر عن مدى سهولتها واعتبارها أفضل طريقة براغماتية لتحقيق الأهداف في ظل التركيز العالمي على الإرهاب السيبراني والشبكات المتطرفة. فيما يتمحور الخلاف الآخر في مدى أهلية حمزة بن لادن لأن يتسلَّم زمام قيادة «القاعدة»، لا سيما أنه لم يعش التجربة الفعلية للتنظيم. يظل استغلال وجود حمزة بن لادن مجرد احتمال إن لم يُستغَلّ كقالب جديد للتنظيم فمن الممكن أن يظل مجرد رمز تاريخي للتنظيمات المتطرفة دون وجود فعلي على الساحة بمعنى أن يستمر على الوضع الراهن الرتيب. وإن تمت مقارنة التنظيمات المتطرفة في مدى متانة آيديولوجيتها وقدرتها على التأثير على الآخرين، فإن التهديد المستقبلي يأتي لا محالة من قبل التنظيم الأم بمعنى «القاعدة» وليس من تنظيم داعش، لا سيما أنه ينطلق من مبادئ أكثر رسوخاً من تخبُّط «داعش». فأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وحدها تُعدّ بداية عهد جديد انقسم فيه العالم إلى قطبين؛ قطب يدعم التطرف وآخر يناوئه. فيما انحسرت رمزية تنظيم داعش من بعد قضاء دول التحالف على خلافته المزعومة في الموصل والرقة، وإن استمرّ في قدرته على استقطاب المتطرفين من كل حدب عبر شبكاته القوية. فيما عرف تنظيم القاعدة بسعيه لكسب «أفئدة وعقول» المحيطين بهم ومعرفة ما ينقصهم من احتياجات، والسعي في تحقيقها، بما في ذلك إعادة بناء البنى التحتية للمدن التي تقع تحت سيطرته، ويختلف تنظيم داعش عن ذلك باعتباره أكثر شراسة في إلغائه للآخر ليمتد ذلك للمسلمين، ويستهدف أماكن التعبد بشكلٍ عام لمجرد وجود مناسبة دينية في أماكن للتجمع يسهل استهدافها من أجل حصد أكبر عدد من الضحايا، ونشر الذعر من خلال البطش بالآخرين. ويعكس الصراع على النفوذ الدولي ما بين «داعش» و«القاعدة» السعي نحو استجلاب تحالفات مع تنظيمات وجماعات أخرى سواء في أماكن النزاع أو حتى في مناطق أخرى مثل أفريقيا. وقد انتشرت أقاويل جاءت بعد البث المسموع لحمزة بن لادن حول تمركزه في سوريا لم يتم تأكيدها أو نفيها، وذلك من أجل استغلال فرصة مهاجمة التحالف الدولي لـ«داعش»، وشروع «القاعدة» في السعي نحو كسب المعارضين لنظام بشار الأسد ومحاولة الحصول على تحالفات والتأسيس لـ«قاعدة» للمجاهدين فيها، بعد أن اتضح استحالة تنظيم داعش الاستمرار في تلك المنطقة، والاستفادة من انعدام الأمن والاستقرار السياسي فيها من أجل ملء الفراغ الموجود. وإن كان يصعب إيجاد مكان ثابت للتنظيمات المتطرفة بشكلٍ عام، إذ من السهل إيجادها من خلال الأنشطة الإلكترونية للمتطرفين، واستهداف أماكن وجودهم عسكرياً أو عبر غارات جوية إن أتاحت المنطقة الجغرافية التي تمركز فيها الإرهابيون ذلك. إذ إن معرفة أماكن سيطرة التنظيمات مثل وجود تنظيم القاعدة في اليمن سهّل عملية استهداف عناصره، كما حدث مع قائد تنظيم القاعدة في شبوة مجاهد العدني الذي قتل في غارة جوية مع مرافقيه حذيفة العولقي وأبو ليث الصنعاني عبر غارة جوية بطائرة أميركية دون طيار. فيما ذاع صيت «القاعدة» في المغرب العربي إضافة إلى جماعات أخرى تبنت فكر «القاعدة» في سيناء مثل جماعة «المرابطون» و«جند الإسلام» فيها، إضافة إلى حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، فيما فضلت جماعات أخرى الانضمام لـ«داعش» مثل جماعة بوكو حرام التي كانت من قبل قد أعلنت ولاءها لـ«القاعدة» باسم جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد. بشكلٍ عام تستدعي المؤشرات الآنية ترجيح استمرارية «داعش»، وإن ضعف واحتمال هيمنة «القاعدة» في حال ظهوره بمظهر جديد أو بزوغ تنظيم آخر جديد مسيطر، لا سيما أن الاضطراب السياسي لا يزال مستمراً في عدة مناطق من الشرق الأوسط، إذ يصعب التخلص من التنظيمات المتطرفة بالطريقة العسكرية التقليدية التي ركَّزت على القضاء على معاقل التنظيم، وإن قلص ذلك من قدراته، إذ بإمكانه إيجاد معاقل أخرى أو تحويل عملياته لتصبح سيطرة على العمليات الإرهابية عن بعد كمساعي تنظيم داعش إنشاء خلافة إلكترونية. الأمر الذي يعكس مدى صعوبة اجتثاث تنظيم متطرف، كما حدث مع تنظيم القاعدة الذي استمرّ على مر سنوات كثيرة على الرغم من ضعفه وخفوت بريقه، إلا أن التنظيم لم يتلاشَ تماماً وإنما تذبذبت عملياته حتى أصبحت هناك مؤشرات لنهوضه مرة أخرى. فوجود مناطق نزاع واضطراب سياسي من جهة، ووجود أقليات مسلمة تشعر بالاضطهاد من جهة أخرى، كل ذلك يعزز من قدرة مثل هذه التنظيمات على التأثير واستقطاب المؤيدين. إضافة إلى وجود مسببات أخرى أبرزها تعالي صوت اليمين في الغرب، وظهور أصوات وتوجهات تؤيد قرارات تثير غضب الرأي العام مثل قرار الرئيس الأميركي ترمب نقل عاصمة إسرائيل إلى القدس، مما قد يعزز من قدرة المتطرفين استثارة المتعاطفين لأخذ الثأر لذلك. وعلى النسق ذاته، يصعب اختفاء تنظيم داعش، بالأخص مع سهولة القدرة على انضمام أي شخص يحمل فكراً متطرفاً لهم مما يتيح له العمل في الخفاء معهم. فيما من الوارد أن تظهر تنظيمات متطرفة جديدة بقالب آخر يلفت الأنظار بالأخص بعد أن وصلت التنظيمات الأخرى مرحلة الضعف. النقطة الأهم التي تدفع التطرف للاستمرار تكمن في صعوبة قدرة السلطات القضاء على الآيديولوجية المتطرفة بشكلٍ تام بالأخص إن استمرت مسبباتها، ويلزم من أجل ذلك وضع استراتيجيات تسعى لاجتثاث الفكر المتطرف وحيثياته.
مشاركة :