يجلس كارل فيبر خلف مكتبه المتواضع وعيناه تحدقان في شاشة الكمبيوتر دون ملل وهو يتابع أداء شركته المتخصصة في الخدمات السياحية وكأنه يدقق في عائداتها المالية. وفيبر الحامل للجنسية الألمانية هو أحد المستثمرين الأجانب الجدد الذين اختاروا تونس وجهة لإطلاق عدد من المشاريع في قطاعات حيوية مثل الخدمات والطاقة. وقال متحدثا بالفرنسية "الأمور ليست كما نريد، هناك انكماش كبير في الشتاء، علينا أن نصبر ليتحرك القطاع مع بداية شهر يونيو (حزيران)، السياح هنا يفضلون البحر والشمس". وأضاف الأحد في تصريح لميدل ايست أونلاين "عموما تحسنت الخدمات، ليست كما يجب، ولكن المستثمر الأجنبي بات أقل توجسا، تونس تتجه نحو الاستقرار وهذا مهم". ويعمل بالشركة التي أنشأها في 7 مارس/اذار 2016 بمدينة الحمامات 20 موظفا موزعين بين 5 كوادر مساعدين مباشرين لفيبر و15 موظفا وأجيرا من بينهم 5 نساء. وتمثل الشركة واحدة من بين شركات الاستثمار الخارجي الذي سجل خلال العام 2017 نسبة نمو تقدر بـ 18 بالمئة وفق تقرير وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي. وامتنع المستثمر الألماني عن الكشف عن أرباح الشركة مكتفيا بالقول إن "الأمور جيدة عموما، لكن الأرباح تبلغ ذروتها في الصيف وتنفص بنسبة 50 بالمئة في الشتاء". ويتصدر قطاع الخدمات قائمة القطاعات التي بدأت تنتعش بصعوبة في ظل الأزمة التي تشهدها تونس بنسبة نمو تناهز 71.1 بالمئة مقارنة بالسنوات الثلاث الماضية. ووفق نفس التقرير شهد أداء قطاع تكنولوجيات الاتصال نسقا تصاعديا حيث سجل نسبة نمو تقدر بنحو 20.9 بالمئة وهو مؤشر على أن المستثمرين الأجانب باتوا أكثر إنجابا للقطاعات ذات المحتوى المعرفي بعيدا عن القطاعات التقليدية. وارتفعت نسبة نمو قطاع النسيج والملابس إلى 72 بالمئة لينتعش من جديد بعد توقف العشرات من المصانع نتيجة الإضرابات والاعتصامات التي شهدتها تونس ومخاوف المستثمرين من هشاشة الأوضاع الاجتماعية والأمنية الناجمة عن اعتداءات ارهابية. وقال فيبر لمراسل ميدل آيست اونلاين "رغم الأزمة يبدو المستثمرون الأجانب أكثر اطمئنانا اليوم وهذا أمر مهم من شأنه أن يساعد تونس على استعادة صورتها كوجهة جاذبة للاستثمار". وأضاف " يبدو أن الاستثمار الخارجي بدأ ينتعش ليساعد على رفع أداء الاقتصاد". وتأتي توقعات فيبر مطابقة لواقع انتعش الاستثمار الخارجي بنحو 18 بالمئة. وعلى الرغم من حالة انكماش الاستثمارات الخارجية وعزوف المستثمرين الأجانب، انتزعت تونس المرتبة 9 عالميا من بين 18 بلدا من بلدان الشرق الأوسط وفق أحدث تقرير لوكالة "فيتش رايتينغ" لتحصد 47.8 نقاط من اجمالي 100 نقطة. ويقول التقرير إن تونس تتوفر على العديد من المزايا والفرص منها سياسات الانفتاح على الأسواق الخارجية وقربها من بلدان الاتحاد الأوروبي والأسواق الإفريقية. ورغم أن هذا الانتعاش يعد مؤشرا إيجابيا بالنسبة لقطاع حيوي في تونس فإنه لا يعكس القدرات التي تمتلكها البلاد وما تتوفر عليه من مزايا تفاضلية. ويقول عبدالزاق الذوادي الخبير الاقتصادي "تراجع أداء الاستثمارات الخارجية (الأجنبية) بشكل كبير جاء نتيجة هشاشة الأوضاع ومخاوف المستمرين لكن يبدو أن القطاع بدأ ينتعش". وقبل انتفاضة يناير/كانون الثاني 2011 كانت تونس وجهة استثمارية بامتياز تستقطب أكثر من 3000 مؤسسة أجنبية تنشط في مختلف القطاعات وخاصة قطاع الطاقة والخدمات والنسيج وتوفر نحو 300 ألف فرصة شغل وتضخ نحو 2.5 مليون دينار (حوالي 1.2 مليون دولار). غير أن الفوضى الاجتماعية والهجمات الإرهابية دفعت بالعشرات من المستثمرين الأجانب إلى غلق مؤسساتهم ومغادرة البلاد خاصة باتجاه المغرب. وخلال السنوات السبع الماضية تراجع حجم الاستثمارات الخارجية بشكل حاد إذ لم يتجاوز خلال العام 2016 مثلا 800 مليون دولار ليسجل نسبة انخفاض بنحو 6.9 بالمئة. ويشدد المستثمر الألماني كارل فيبر على أنه "كلما تقدمت تونس باتجاه الاستقرار الاجتماعي والأمني كلما استقطبت المستثمرين الأجانب"، ملاحظا أنه "من الصعب إقناع أي مستثمر في ظل الإضرابات والاعتصامات وهجمات الإرهابيين". وتظهر المؤشرات أن الاستثمارات الخارجية مازالت تحافظ على الأسواق التقليدية حيث تستأثر مؤسسات بلدان الاتحاد الأوروبي بنحو 91 بالمئة من مجموع شركات الاستثمار. وتسعى تونس إلى الانفتاح على جذب استثمارات اجنبية جديدة من أسواق أخرى كالسوق الروسية والصينية وإلى المزيد من الانفتاح على المستثمرين الخليجيين. ووفق الوثيقة التوجيهية لمخطط التنمية 2016 ـ 2020 تتطلع تونس إلى زيادة نسبة الاستثمارات الخارجية إلى نحو 80 بالمئة من خلال تطوير الإحاطة بالمؤسسات وتوفير أفضل الظروف لإنجاز المشاريع الكبرى. وشدد عبدالرزاق الذوادي على أنه "لا يمكن الحديث عن استقطاب الاستثمارات الأجانبية ما لم تقع مراجعة القوانين باتجاه التخفيف من التعقيدات الإدارية التي لا مبرر لها". وكشف المستثمر الألماني فيبر أنه استغرق 6 أشهر لإقامة شركته بسبب عراقيل إدارية. وتظهر المؤشرات أن انتعاش الاستثمارات الخارجية لم تستفد منه الجهات الداخلية التي تعاني التهميش منذ عقود إذ تستأثر الجهات الساحلية وتونس العاصمة بـ93 بالمئة من المؤسسات الاستثمارية الأجنبية. وشدد الذوادي على ضرورة "توفير مزايا تفاضلية خاصة بالجهات الداخلية من شأنها أن تشجع المستثمرين الأجانب على تركيز مؤسساتهم فيها من خلال الحد من الإجراءات الإدارية وتخفيف نسبة الضرائب وتوفير البنية الأساسية وتركيز مناطق صناعية". ويعود عزوف المستثمرين في الجهات الداخلية إلى عدة عوامل في مقدمتها غياب البنى التحتية الأساسية والمناطق الصناعية المتطورة والمناخ الملائم للاستثمار. ويقول المسؤولون إنهم يواجهون صعوبات في إقناع المستثمرين بتركيز مؤسساتهم في تلك الجهات خارج المناطق الصناعية بمدن الشريط الساحلي مثل سوسة والمنستير. غير أن المستثمر الألماني كارل فيبر قال إن "تركيز المستثمرين الأجانب على المناطق الصناعية في المدن الساحلية يعود إلى أسباب موضوعية منها طبيعة نشاط المؤسسات خاصة مؤسسات الخدمات التي لا يمكن لها أن تنشط داخل البلاد". وتتطلع تونس إلى الرفع من نسبة مساهمة الاستثمار الخارجي في اجمالي الناتج المحلي من 2.3 بالمئة ما بين العامي 2011 و2016 إلى نحو 4.6 بالمئة في بداية العام 2020 وفق وثيقة المخطط التنموي التوجيهية الخماسية.
مشاركة :