«أنا قط» لنتصوميه صوسيكي... تأملات حيوان أليف

  • 1/30/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

«القطط لها أرجل ولكن لا يشعر أحد بوجودها، فهي تسير في كل مكان من دون أن تصدر صوتاً، وكأنها تدوس على الهواء أو تسير على السحاب أو كأنك تلقي بحجرٍ في الماء، أو كأنك تعزف على قيثارة في كهف، أو كأنك تلعق شيئاً لذيذاً يجعلك تشعر ببرودة أو دفء يؤدي إلى سعادتك». بهذه الكلمات وصف القط (الراوي) بني جنسه، أثناء قيامه بمهمة استطلاعية تطوعية لحساب سيده مدرس اللغة الإنكليزية، ضد السيد كاني`ـدا، المليونير الياباني صاحب الفيلا القريبة؛ في رواية «أنا قط» للكاتب الياباني نتصوميه صوسيكي (1869 – 1916) التي صدرت ترجمتها العربية عن «مركز المحروسة للنشر والمعلومات» في القاهرة، بتوقيع المترجم ماهر الشربيني. يفتتح صوسيكي، أحد رواد الرواية اليابانية، روايته بجملة حاسمة ودالة ومثيرة للفضول: «أنا قط، لكن ليس لي اسمٌ حتى الآن». ثم يمضي القط الراوي في صفحات قليلة ليصف معاناته عندما سُلِب من أمه وإخوته، وتحول إلى قط شارع، ثم كيف تسلّل إلى منزل المدرس مرات عدة وطرد منه كل مرة، إلى أن أشفق عليه المدرس وأمر الخادمة بالإبقاء عليه. تالياً، بعد أن استقر القط وأدرك أنه في أمان وأنه سيجد بشكل دائم بعض الطعام ومكان دافئ للمبيت، اطمأن، وراح يروي الأحداث بمنظور تأملي فلسفي، لا يتورع فيه القط في شكل طفولي ساذج – يليق بوعي حيوان منزلي– عن محاكمة البشر من حوله وإطلاق أحكامه ضدهم، متهماً إياهم بالأنانية والجهل والميل إلى العنجهية الكذّابة والتشبث بتقاليد بالية وغيرها من الأطروحات الفكرية للقط المنزلي إن صحّ الوصف. تتوسع حياة القط، هكذا يمضي صوسيكي في سرده، فيتعرف الى قطط باقي بيوت المربع السكني والجيران، كالقط «الأسود» في بيت الرجل الذي يجر عربة اليد، والقطة «ألوان» في منزل مدرسة الموسيقى، ويبدأ في تبادل الزيارات مع قطط الحي، وبالمثل، كقط منزلي كسول ومتحاذق، لا يكف عن نقل وقائع الجلسات الحوارية الدائرة بشكل متواصل بين رب المنزل، مدرس اللغة الإنكليزية «القابع في مكتبه في شكل متواصل كمحارة ملتصقة بحجر»، مع صديقيه، السيد الفشّار «دائم الكذب»، البروفيسور الجامعي المحب للمقالب والذي يستمتع دوماً بوضع محاوريه في حيرة تشبه الأحاجي والنكات الرديئة، والسيد «القمر البارد» الذي يعد بحثاً عن فيزياء وميكانيكا عمليات الشنق، والذي يريد أن يقترن بابنة السيد كانيدا. لا ينقل نتصوميه صوسيكي الواقع كما هو، بل يخضعه لعدسة جمالية تخص ذائقة المؤلف، فيبدو واقع الشخصيات ناعساً، انعزالياً، مفارقاً للواقع الياباني في تلك السنوات أو متعالياً عليه وساخراً منه، ومرد ذلك إلى طبيعة الكاتب ونشأته، فقد ولِد صوسيكي في طوكيو لعائلة غنية، إلا أن تقلبات الدهر عصفت بها وبدّلت ظروفهم فصاروا فقراء، وكان صوسيكي هو الأصغر بعد خمسة أبناء ذكور، ويبدو أن الأب لم يرغب في مجيئه، ومع التحولات العاصفة، قررت الأسرة تسريبه– كقط– إلى أسرة أخرى غنية، إلا أن ربّي الأسرة الجديدة ماتا خلال أعوام معدودة، فعاد صوسيكي إلى أسرته الأصلية مصحوباً برفض من الأب، ثم حدث أن مات ثلاثة من إخوته خلال ثلاث سنوات، فأصيب بالاكتئاب وتضررت أعصابه. كان الطفل صوسيكي راصداً جيداً ومراقباً جيداً خلال تنقّلاته المبكرة بين بيوت طوكيو، كقط منزلي لا يمتلك أي حق غير الغذاء والمأوى، وبعض التعليم والتربية. ومن هنا يمكن رصد كيفية قيام المؤلف بتوزيع سماته الشخصية على شخوص رواية «أنا قط» فهو نفسه عمل مدرساً للإنكليزية مثل سيد المنزل، وقد كره تلك المهنة كثيراً حتى هجرها، وهو نفسه عمل أستاذاً جامعياً مثل البروفيسور الفشار، وهو نفسه مصاب بأمراض عدة مختلفة أبرزها مرض في المعدة تماماً مثل رب المنزل، عدا أن أنه هو نفسه، لا يفرق كثيراً عن ذلك القط المنزلي خفيف الظل. وبسبب تلك السيرة الحياتية المضطربة، وبسبب رفض المؤلف الانخراط في الخدمة العسكرية- إذ لطالما حمل صوسيكي موقفاً منتقداً الدولة اليابانية التي كانت تحارب على جبهات عدة، بخاصة مع الصين، وهو الأمر الذي ترد إشارات عدة له في الرواية- هرب صوسيكي من طوكيو إلى مدينة شمالية بعيدة يصعب وصول القوات إليها، وبالتالي هي ملاذ آمن للإفلات من التجنيد. تجلى هذا الرفض في رواية «أنا قط»، وفي معظم أعمال صوسيكي مثل «الفتى الطائش» و «قلب الأستاذ»، فيأتي الواقع المحكي عنه بصورة مموهة عن الواقع الحقيقي، هناك ميل للسخرية، والكارتونية، وتقليل الأحداث الكبرى، لمصلحة حكايات تتفرع ببطء وتؤدة وروية وترسم صورة للمجتمع الياباني من زاوية نظر ورؤية المؤلف، ما دعا بعضهم إلى وصف هذا اللون الكتابي أو التيار بمذهب «التروي»، كما ورد في مقدمة المترجم «حيث ينظر إلى الحياة بطريقة تأملية، وهو مذهب مضاد لمذهب الواقعية». بهذا الشكل، تسيل أحداث الرواية ببطء، وإن كان ذلك لا يتنافى مع كونها مسلية ومشوقة، فمجرد حضور فكرة أن هذه الحياة بين ضفتي الكتاب مطروحة من وجهة نظر قط، يضفي روحاً من السخرية والكاريكاتورية، تضاف إلى أسلوب القط القبيح والمتعالي والواثق في نفسه إلى درجة التقديس، تضفي تلك المفارقات المغزولة بحكايات فرعية وحوارات مستمرة وقصص مضحكة أو متأملة، شيئاً من الحيوية على السرد البطيء. فالقط المتأمل يظن نفسه قطاً استثنائياً، على رغم أن لا أحد من سكان البيت يقبل به سوى رب المنزل، مع أن القط ورب المنزل يحتقر أحدهما الآخر، وغالباً ما يقوم رب المنزل بضرب القط على رأسه ومؤخرته على سبيل الدعابة، بينما تطرده الطفلتان دائماً، وتهينه الخادمة بشكل متواصل. في المقابل وعلى رغم هذه المهانة، يقول القط الراوي عن نفسه: «أستطيع أن أذهب حيثما شئت وأسترق السمع ممن أردت وأن أخرج لساني لمن أردت وأهز ذيلي في اتجاه من أردت وأتحسس ذقني حيثما شئت، وأن أعود لمنزلي على مهل، وبالنسبة لجميع تلك الأمور فأنا الأفضل على مستوى اليابان، ومهارتي في القيام بتلك الأشياء تجعلني أشك أنني سليل القط العفريت الذي يظهر في قصص الكارتون القديمة». وهكذا، جعل نتصوميه صوسيكي، هذا القط السارد في رواية «أنا قط» المترجمة لأكثر من عشرين لغة، يقوم بتقديم صورة تأملية للمجتمع الياباني، في مرحلة انفتاح الدولة على الحضارة الغربية ومحاولة المواءمة بين الأصالة والحداثة التي انشطر المجتمع الياباني حيالها، خلال تلك السنوات.

مشاركة :