النثرية ليست فخامة اللغة أو كثافتها البيانية فقط، وإنما قدرتها التمثيلية التي تجعلنا نقرأ مقاطع روائية بوصفها صورا لفظية.العرب شرف الدين ماجدولين [نُشر في 2018/01/31، العدد: 10886، ص(15)] في تعقيب لأحد الحاضرين في ندوة عن الرواية العربية، نعت الكتابات الروائية المنتشرة في ربوع العالم العربي اليوم بالكتابات النثرية، وأسرف في شرح “نثريتها” بما هي نقيض للبناء الدرامي للرواية، وكان القصد الذي يرمي إلى إبلاغه أن الرواية حين تكف عن الإيهام بصنعتها تتحول إلى مجرد نثر، وتبرز بوصفها شكلا من أشكال توسل الكاتب غير الموهوب (والمدعي بمعنى ما)، بطاقة اللغة وكفاياتها البلاغية، خارج مدار المقومات المركزية للصنعة الروائية، بحيث لا يستقيم العمل على نظام يقيد صيغ تشغيل العبارة اللفظية في هذا الجنس المخصوص من التعبير الأدبي. والحق أن هذا القصد على وجاهة القاعدة المعنوية التي يستند إليها، إذ أن النثر في عمومه ترسّل مفارق لقيود نظامية، فإنه يزري بسمة لا تكاد تتحقق إلا في نسبة يسيرة من الأعمال الروائية، ذلك أن النثر في تعيناته الكتابية أرفع من معناه اللغوي، ومن ثم فلا يمكن الحديث اليوم بمنطق المفاضلة بين الأجناس، حيث يكون القول السائب مجرد نثر للمعنى، وإنما نتحدث عن ذاكرة تعبيرية جليلة لا يمكن أن تلحق بها في السياق المعاصر إلا أعمال سردية استثنائية. لهذا فنحن عادة ما ننعت التحف الروائية الخالدة بكونها ترقى إلى مستوى نثر حقيقي، لأن اللغة فيها تخطت نطاق التعلق بمقومات التأليف السردي القائم على افتراض شخصيات وفضاءات ووقائع، إلى حد تمثل فيه قاعدة جوهرية في تشغيل تلك المكونات. غير أن “النثرية” هنا ليست هي فخامة اللغة أو كثافتها البيانية فقط، وإنما قدرتها التمثيلية التي تجعلنا نقرأ المقاطع الروائية بوصفها صورا لفظية. ولعل من المفارقات اللافتة للنظر، أن سمة “النثرية” هاته، هي ما تواضع على وسمه أحيانا، بعض نقاد السرد، بـ”شعرية” الرواية. وكأنما المدونة النقدية عاجزة عن وعي فن الرواية، من حيث هي أسلوب تخييلي، خارج ثنائيات الشعر والنثر، وذاكرتهما في التقاطب والجدل. ذكرني هذا الوصف بنعت مشابه لا يقل تبسيطا، تحشر فيه كل الأعمال الروائية ذات النفحة التاريخية أو الواقعية، أو التي تزهد في التجريب الشكلي، ضمن خانة “الكلاسيكية”، فيتم الحديث عن منزع سردي كلاسيكي بوصفه معادلا للمحافظة والتقليد والتولّع بالأحداث، بصرف النظر عن كون هذا النعت لا يقبل التحول إلى مجرد أسلوب، بقدر ما أضحى علامة على الاكتمال والرسوخ، فما هو كلاسيكي في الرواية مثلما هو في الشعر والموسيقى والعمارة والفنون تحوّل إلى نموذج للاستمرار ورسم القواعد. كاتب مغربيشرف الدين ماجدولين
مشاركة :