القوة الثالثة بعد الناعمة والصلبة

  • 2/1/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

جميل مطر شاهدت الرئيس دونالد ترامب يخطب في دافوس، حيث تنعقد سنوياً قمة المال والأعمال والسياسة. كاد الرئيس الأمريكي أن يكون شخصاً آخر غير الذي عرفناه على امتداد سنة كاملة. اختلفت لغة جسده، فبدا وقوراً في استخدام ذراعيه ويديه وعينيه وفمه، واختلفت لغة الخطاب فبدا في كثير من رسائله ملتزماً ومترابطاً وقابلاً للتصديق. كتبه وحرره لا شك مستشاروه وراجعه وزيرا الخارجية والدفاع. كانت مرة من مرات قليلة لم يصدر فيها عن أي منهما تصريح أو تغريدة تعدل في خطاب أو تغريدة صدرت عن رئيس الدولة واستدعت تدخلاً سريعاً.حصل الخطاب على ثناء الكثيرين. كان هناك في الغالب من أراد أن يستمع إلى خطاب من الرئيس الأمريكي يكشف عن حقيقة ما يفكر فيه. يريدون خطاباً خاماً لم تدخل عليه تعديلات وتصحيحات لأنهم تعودوا خلال العام على أنه يقول ويفعل. يبعث بتغريدات تحمل معلومات ومواقف بعيدة عن الحقيقة وفي أكثر الأحوال غارقة في المبالغة المتعمدة. تتحول هذه المواقف بمرور الوقت وبالتكرار المتعمد إلى أوامر رئاسية، أو ترسخ في أذهان المتلقين لها. الرئيس لم يتغير وإنما يتغير الآخرون الذين يسمعونه ويشاهدونه ويتعاملون معه. الرجل لم يغير موقفاً واحداً التزم به في الحملة الانتخابية. التزم تجاه العامل الأبيض الذي فصل من وظيفته وضاقت به سبل كسب العيش تحت ضغط مسيرة العولمة، المسيرة التي طحنت أفراداً وفئات وطبقات وأينعت مهارات جديدة وتكنولوجيات مبهرة وجيوشاً من الروبوتات جاهزة لتولي معظم مسؤوليات الإنتاج والخدمات والنقل والتعليم. التزم تجاه الأغنياء جداً أن يرفع عن كاهلهم الضرائب فيستثمرون أكثر ليشتغل العمال البيض أولا ثم غيرهم فيما بعد. أمريكا تصدرت قائمة الدول الحائزة على رصيد مرتفع من القوة الناعمة. أقول تصدرت في الماضي لأنني غير واثق تماماً من موقعها الحقيقي والراهن على مقياس هذه الدول. كانت القوة الأعظم بحكم مقاييس أخرى في الوقت نفسه ليس أقلها شأناً مقياس القوة الصلبة. لدي ثقة، مستندة إلى دراسات وتقارير أمريكية وأوروبية، في أن أمريكا لا تزال في مقدمة الدول التي تمتلك أضخم ترسانة عسكرية في العالم وتحتفظ بأسرار كثير من نواحي التقدم التكنولوجي في شؤون التسلح خاصة أسلحة الدمار الشامل. في الوقت نفسه لدي انطباع بأن أمريكا فقدت، أو ربما تفقد الآن، موقعها في صدارة القوى الدولية المحتفظة لسنوات عديدة برصيد عال من القوة الناعمة. جوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية الذي ينسب إليه صياغة تعبير القوة الناعمة ودورها في إدارة العلاقات الدولية، منزعج. كان ناي يقول منذ عقد التسعينات أن القوة الناعمة وحدها لا تكفي لتحقيق التأثير المطلوب في دول أخرى مستهدفة، هي دائما في حاجة إلى قوة صلبة تساندها، أي إلى أدوات أقل نعومة. كان اجتماع القوتين الناعمة والصلبة في سويسرا نموذجاً لقدرة دولة صغيرة نسبياً على حماية نفسها في أعتى الظروف. كذلك كان اجتماعهما في الحالة الأمريكية نموذجاً لقدرة دولة على فرض زعامتها وقيادتها على العالم وتحقيق انتصار الرأسمالية على الشيوعية. ولكن، هنا يكمن سبب انزعاج جوزيف ناي، أو على الأقل ما فسرته من جانبي انزعاجاً، يتساءل ناي كما تساءلت وأتساءل، لماذا كل هذه الضجة حول استخدام ظاهرة الأنباء الكاذبة في شكل حملات تخريبية ضد دول مستهدفة كقوة مضافة إلى القوتين الصلبة والناعمة، بمعنى آخر ناي منزعج من عواقب الاعتماد على مصادر قوة جديدة وهو الذي بشر وأوصى بأن اجتماع القوتين بنسب معقولة كاف وحده للتأثير في دول أخرى. لو صح ما يدعيه خصوم الرئيس ترامب وقطاع واسع جداً من الدبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين من أن روسيا أثرت بدرجة، غير ممكن التحقق تماماً منها، في سير حملة انتخاب رئيس جديد لأمريكا في عام 2016، فإن أعداداً متزايدة من الأكاديميين والسياسيين في كل أنحاء العالم سوف تعتنق فكرة الاعتماد على مصادر قوة ثالثة غير القوتين الناعمة والصلبة للتأثير في دول أخرى. هذه القوة الثالثة يصفها كريستوفر ووكر وجيسيكا لودويج الباحثان بمنحة الديمقراطية في تقرير مطول نشرت خلاصته قبل أيام بأنها «الاستخدام الخادع للمعلومات والأنباء لتحقيق أغراض عدوانية» وأطلقا عليها جريا على سابقة جوزيف ناي «القوة الحادة Sharp Power». بمعنى آخر أصبح هناك ثلاثة مكونات لقوة الدولة الكلية، القوة الناعمة والقوة الصلبة والقوة الحادة.واقع الأمر أن هذه القوة الحادة ليست أكثر من قوة صلبة استخدمها الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور. وإلا بماذا نفسر الإذاعات الموجهة للشعب الألماني والشعوب الواقعة تحت الاحتلال النازي، والتي كانت تستهدف استقرار هذه المجتمعات ومعنويات المحاربين، وبماذا فسر حملات محطة الشرق الأدنى البريطانية وجهودها لإثارة السخط في الشارع المصري ضد حكومة الثورة قبل حرب السويس. الكذب موجود في السياسة بل لعله وجهها الآخر.جوزيف ناي له حق في انزعاجه. فالقوة الناعمة تتحول إلى قوة حادة لو استخدمت الخداع. وهو ما يحدث بوفرة هذه الأيام في السياحة كما في الإعلام. يجري التلاعب في مصاير الأمم وقيمها وتراثها كما يجرى خداع الشعوب بتقديم نسخ مزورة من سرديات أسست للقوة الناعمة في بلاد مثل مصر والهند. يحذر ناي الدول التي تستهدفها حملات الرسائل والمعلومات المزيفة ونصيحته التي أتبناها أو على الأقل أثني عليها «ألا تنساقوا وراء إغراء الدفاع عن النفس بتقليد هذه الحملات وشن حملات مضادة.» الخاسر في النهاية هو قوتكم الناعمة.

مشاركة :