القيروان شهدت 120 بين حالات انتحار ومحاولات للانتحار في عام 2016، ما يمثل قرابة 30 بالمئة من إجمالي الحالات والمحاولات في تونس.العرب [نُشر في 2018/02/01، العدد: 10887، ص(20)]الفقر يحرق أجسادا غضة تونس - تشتهر مدينة القيروان التاريخية بجامع عقبة ابن نافع العريق وصناعة الحلويات، ويمثل هذا الوجه المشرق لعاصمة المغرب الاسلامي في ما مضى، لكن اليوم زادت شهرتها أكثر بتواتر حالات الانتحار فيها. في مدينة بوحجلة التابعة للمحافظة لا يزال مشهد انتحار الصبي رمزي المسعودي ماثلا في أذهان أصدقائه بالمدرسة الثانوية، وما من أحد من هؤلاء نجح في التعافي من هول ما شاهد حتى اليوم. تروي عائلة المسعودي أن ابنها أقدم على الانتحار حرقا في فناء المدرسة الثانوية وفي غفلة من الآخرين، بعد أن ضاق ذرعا من حالات الطرد المتكررة من مدرّس الإنكليزية. لكن أحد أصدقائه كان شاهدا على الحادثة ورافقه حتى اللحظات الأخيرة إلى المستشفى بينما كانت رائحة الشواء تنتشر من جسده. يقول وسام حديدي (19 عما) صديق رمزي المسعودي حينما كان يقص الحادثة لصحيفة نيويورك تايمز، “في المستشفى كان رمزي فاقدا لوعيه وظل يردد كلمة الظلم. كان يحترق أمامي… مازال بوسعي تذكر الرائحة”. وأضاف وسام في روايته “حبست نفسي في المنزل لمدة أسبوع. في الواقع، لم أستطع العودة إلى المدرسة الثانوية”. لم يصمد جسد رمزي طويلا في قسم الإنعاش، كانت حروقه بليغة وقد فارق الحياة بعد ثلاثة أيام من الحادثة لينضم إلى سجل طويل من حالات الانتحار المتفشية في تونس، ولا سيما في القيروان. ويقول المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إن حوالي 40 حالة انتحار تشهدها تونس شهريا، ما يرسخ تفشي الحالة منذ حادثة محمد البوعزيزي مفجر الثورة قبل أكثر من سبع سنوات. ودفع الأمر بالمؤسسة الدينية، دار الإفتاء، إلى أن تطلق صيحة فزع وتدعو إلى الصبر والمثابرة وتذكّر بالقواعد الشرعية المحرمة لهذا الفعل.الأطفال يرزحون تحت ضغط النظام التربوي والمجتمع لذلك توقفوا عن الحلم، والعائلة تخلت عن دورها في الإنصات بسبب الضغوط الاجتماعية والدولة لم تقم بعمل منهجي لحصر الوباء وقال بيان للمفتي إن “قتل النفس بالحرق أو الغرق أو بالخنق أو بأي وسيلة، حرام في الإسلام”. وفي أرقام طرحها المنتدى في مؤتمر صحافي فإن تونس شهدت 165 حالة بين انتحار ومحاولة انتحار خلال الربع الأخير من عام 2017 بلغت أقصاها في شهر نوفمبر الماضي الذي شهد 61 حالة. وفي وقت سابق كان المنتدى الذي يعنى بالأوضاع الاجتماعية والتشغيل والتنمية، قد سجل 370 حالة انتحار ومحاولة انتحار منذ مطلع 2017، أغلبها حرقا. وتأتي القيروان في المركز الأول من بين الولايات التونسية إذ كانت شهدت 120 بين حالات انتحار ومحاولات للانتحار في عام 2016، ما يمثل قرابة 30 بالمئة من إجمالي الحالات والمحاولات في تونس والتي بلغت أكثر من 900 حالة. وقال رئيس المنتدى رمضان بن عمر، “نسب الانتحار مرتفعة في ومحافظتي القيروان وبنزرت مع أن المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية بين الجهتين مختلفة تماما”. ويضيف بن عمر “دوافع الانتحار تبدو مركبة ولا يمكن حصرها في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية. هناك ضغوط يومية تسلط على المواطن التونسي لكن هناك أيضا دوافع نفسية وعائلية”. وفي كل الأحوال ترسخ الإحصائيات المنحى الذي اتخذته ظاهرة الانتحار في تونس، منذ أن أقدم بائع الخضار المتجول محمد البوعزيزي في 2010 على إحراق نفسه احتجاجا على مصادرة سلعه من قبل الشرطة البلدية، ليشعل بذلك ثورة عارمة أطاحت بالنظام وانتقلت عدواها إلى أقطار عربية. وبعد ذلك تحول البوعزيزي تدريجيا إلى ملهم لليائسين، وبشكل خاص لدى من يشاركونه مهنته كباعة متجولين للخضار والفاكهة. وفي مدينة طبربة قرب العاصمة تتردد على نطاق واسع قصة الشاب عادل الدريدي الذي أقدم على سكب البنزين على جسده بإحدى محطات التزود بالبنزين، احتجاجا على منعه من قبل الشرطة من عرض بضاعته. والحادثة تكاد تمثل نسخة طبق الأصل من حادثة البوعزيزي في محافظة سيدي بوزيد قبل نحو ثماني سنوات، لكن عادل الدريدي نجا من موت محقق لأن أحد الحاضرين بالمحطة بادر بسرعة بإخماد النيران من جسده مستعينا برداء. وقال عضو المنتدى والمختص في علم الاجتماع عبدالستار السحباني إن “اقتفاء أثر البوعزيزي ينطوي على دلالة رمزية في طريقة الاحتجاج علنا. واختيار الساحات عامة القصد منه التوجه برسالة إلى مؤسسات الدولة”. وتبرز خطورة المنحى في أن ظاهرة الانتحار، أيا كانت الطريقة، تحولت تدريجيا إلى الناشئة، إذ تبرز إحصائيات المنتدى أن الربع الأخير من 2017 شهد انتحار 11 طفلا من بين 44 حالة على امتداد العام، مقابل 51 حالة في 2016 و56 حالة في 2015. وعلى عكس صورة المدينة الدينية والمحافظة فإن القيروان التي تتصدر نسب الفقر في تونس، تضج وحدها بحالات انتحار صادمة في صفوف الأطفال علاوة على حالات العنف والتحرش الجنسي.الإعلام ساهم في إظهار محمد البوعزيزي في صورة البطل ـ هذه الصورة أراد بعض الأطفال أن يتقمصوهاـ كان هدف الإعلام الإثارة ولم يكن مؤهلا للتعامل مع هذه الظاهرة وتنفرد مدينة “العلا” إحدى أكثر المناطق فقرا في محافظة القيروان بسلسلة من حالات الانتحار في صفوف الأطفال من بينها أربع حالات شهدها معهد الذهيبات وحده في المدينة، حتى أصبحت مقترنة بالموت والقصص المؤلمة. ومن بين تلك القصص يروي سكان المدينة مأساة الطفلة أحلام (14 عاما) التي أقدمت على الانتحار شنقا بعد حالة يأس شديد. وتقول والدة الضحية “أحلام كانت تهتم بإخوتها وخاصة بشقيقيها الأصغرين اللذين يعانيان من إعاقتين. أعياها الأمر كثيرا ولم تر أي مستقبل لها بسبب الفقر. شعرت باليأس والإحباط”. والكابوس لم ينته مع والدة الضحية لأن الشقيقة الصغرى لأحلام هددت باقتفاء أثرها في أكثر من مرة. وقالت الخبيرة في علم الاجتماع ريم السعيداني “ساهم الإعلام في إظهار محمد البوعزيزي في صورة البطل. هذه الصورة أراد بعض الأطفال أن يتقمصوها. كان هدف الإعلام الإثارة ولم يكن مؤهلا للتعامل مع هذه الظاهرة”. وبالنسبة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فإن تفشي حالة الانتحار لا تتوقف عند لعنة البوعزيزي في ظل الضغوط وضيق الأفق وغياب سياسات فعالة للدولة. وقال رئيس المنتدى “الأطفال يرزحون تحت ضغط النظام التربوي والمجتمع لذلك توقفوا عن الحلم. والعائلة تخلت عن دورها في الإنصات بسبب الضغوط الاجتماعية والدولة لم تقم بعمل منهجي لحصر الوباء”.
مشاركة :