تحل قريبًا الذكرى السنوية لرحيل رجل من رجال الكويت الأفذاذ الذين ساهموا في بناء دعائم نهضتها الحديثة، وعـُرفوا بإخلاصهم وعطائهم المتواصل. ففي الثاني من مارس 2013 فقدت الكويت المغفور له الأستاذ الجليل أنور عبدالله النوري صاحب الدرجة العلمية الرفيعة، والخبرة التربوية والاقتصادية والادارية المتراكمة، والبصمات المشهودة في تأسيس ثانية جامعات الخليج بعد جامعة الملك سعود في الرياض ونعني بها جامعة الكويت، الأمر الذي أهله لنيل العديد من الأوسمة والجوائز التقديرية والتمتع بعضوية الكثير من المؤسسات والمنتديات والجمعيات الفكرية والثقافية والتربوية. وقبل أن نخوض في سيرة الرجل ونتتبع مسيرتة العلمية والمهنية الناصعة، من المفيد أن نلقي بعض الضوء على نسب عائلة النوري وأعلامها وما قدموه للكويت عبر الأجيال. تـُجمع المصادر التي اطلعت عليها على أن النوري من الأسر الحديثة التي سكنت الكويت، بعيد نزوحها إلى الأخيرة من مدينة الموصل العراقية عن طريق الزبير، وأن نسبها يرجع إلى عبدة من فرع قبيلة شمر القحطانية، طبقًا لما كتبه أحد أبنائها وهو عبدالملك النوري في الصفحات من 6 ــ 7 من ديوان العلامة الشيخ عبدالله النوري (مطبعة مكتبة وهبة ــ القاهرة). أما قدومها إلى الكويت فكان في عشرينات القرن الماضي بقيادة المرحوم الشيخ الفقيه الزاهد محمد نوري بن ملا أحمد بن محمد بن أحمد بن زكريا الموصلي المولود في ديسمبر 1868. ولهذا الحدث خلفية يجب أنْ تروى، حيث أن الشيخ محمد النوري كان قد ترك الموصل في عام 1900، وتنقل بين بعض المدن قبل أن يحط رحاله في الزبير. وفي عام 1923 أرسل ولده عبدالله إلى الكويت ليعرّف الكويتيين بفضل ومكانة أبيه العلمية، فما كان من الكويتيين إلا وأن رحبوا بانتقاله من الزبير إلى الكويت للاستفادة من علمه ومواعظه وثقافته الأدبية. وهكذا وصل الشيخ محمد النوري مع أسرته إلى الكويت في عام 1923 ليتولى الإمامة في مسجد الخالد، وليعمل بالتزامن معلما مع ابنه عبدالله في التعليم. وخلال تواجده في الكويت كان الرجل ناشطًا في تأليف الكتب ومراسلة أقرانه من علماء الخليج والعالمين العربي والاسلامي. وكانت وفاته في يوم مساء الجمعة المصادف لـ 18 مارس 1927، حيث كان يؤم المصلين في صلاة العشاء وأتبعها بركعتين من التراويح، لكنه أحس بتعب شديد فأوكل الإمامة لابنه عبدالله. وحينما وصل إلى البيت شعر بحاجته للاستفراغ، لكنه لم يستفرغ وانتقلت روحه إلى باريها. أما ابنه عبدالله المولود في مايو 1905 بالزبير فقد درس في المدارس التركية ثم مدارس الاحتلال البريطاني بالعراق قبل أن يلتحق بدار المعلمين ببغداد في عام 1922، ويسير على خطى أبيه، شيخًا تقيًا ورعًا محبوبًا لدى الكويتيين، الذين كانوا يرجعون إليه في الكثير من الأمور، خصوصًا وأنه كان مرجعًا دينيًا، ومربيًا صالحًا، ومؤلفًا محترمًا، ورجلًا بشوشًا كريمًا لا يرد أحدًا، ناهيك عن ثقة رجالات الدولة والحكم فيه. وتقول سيرة الشيخ عبدالله محمد النوري إنه تربى على يد جدته التي حرصت على أن يختم القرآن في سن الثامنة، ثم يدرس الفقه واللغة على يد الشيخ عبدالله بن خلف الدحيان، وأنه سافر في بداية حياته إلى الهند وسيلان من أجل التجارة مثلما كان يفعل معظم الكويتيين في حقبة ما قبل اكتشاف النفط، لكنه لم يجد نفسه في التجارة، فقرر الاشتغال بالتدريس من خلال الالتحاق أولًا بمدرسة العجيري بحي القبلة في عام 1923 ثم بالمدرسة المباركية ثم بالمدرسة الأحمدية كمدرس للدين والنحو. كما عمل مدرسًا للغة الانجليزية في مدرسة الملا عبداللطيف العثمان، وقرض الشعر منذ الصغر فألقى أولى قصائده في تأبين الشيخ علي السالم الصباح الذي استشهد بمعركة الرقعي في فبراير 1928، ودأب على تثقيف نفسه بكثرة المطالعة والقراءة وحضور مجالس العلم والأدب، الأمر الذي انعكس إيجابًا على شخصيته لجهة غزارة العلم وسعة الثقافة ووسطية التفكير وتبسيط العلم الشرعي وفصاحة اللسان ومخاطبة الجمهور ارتجالًا، حيث كان كل هذا يتجلى خلال خطبه وإمامته للمصلين في مساجد الخالد ودسمان وبن بحر والعثمان. في مقال عنه بصحيفة النهار الكويتية (9/8/2012) يقول المحرر إن الشيخ عبدالله لم يتخذ «الشعر مهنة ولا وسيلة كسب، بل عرض شاعريته على مواطنين فأجاد، وشمل شعره كل أنواع الشعر الوطني والاجتماعي والديني ومع ذلك فهو لم يترك إلا ديوانًا مطبوعًا واحدًا هو (من الكويت)». وفي سيرته أيضا أنه عيـّن في عام 1926 كاتبًا في المحكمة، وأخذ يتدرج في وظيفته حتى صار رئيسًا للكتاب، قبل أن يختاره رئيس المحاكم آنذاك الشيخ عبدالله الجابر الصباح سكرتيرًا خاصًا له. وخلال عمله في المحكمة أسندت إليه عدة مهام أخرى مثل التدريس بالمعهد الديني الذي قام به خير قيام لمدة 3 سنوات، والتفيش والارشاد لأئمة المساجد، كما تم تعيينه في عام 1953 مديرا لإذاعة الكويت في بدايات بثها، بأمر من نائب الحاكم وقتذاك الشيخ عبدالله المبارك الصباح، فقام بادخال بعض البرامج الجديدة التي كان يتولاها بنفسه مثل برامج الأطفال، وبرنامج «الدين نصيحه» وبرنامج «طبيبك معك» وغيرها. وبعد فترة من تدشين تلفزيون الكويت الرسمي، وتحديدًا في عام 1964، طلب منه وزير الإرشاد والأنباء (الإعلام) آنذاك الشيخ جابر العلي السالم الصباح أن يظهر على الشاشة مرة كل إسبوع لتقديم برنامج يرد فيه على أسئلة المشاهدين الدينية، فلبى الطلب وحقق برنامجه «مع الدين» نجاحًا مشهودًا بدليل الرسائل التي كانت تنهال على التلفزيون كل يوم من الكويت والبحرين وقطر وجنوب العراق. في عام 1961 اتجه الشيخ عبدالله النوري لمهنة المحاماة، فافتتح لهذا الغرض مكتبا في عمارة العوضي بمنطقة شرق، مختصًا بدعاوى المواريث والوصايا والقضايا التجارية والوقفية. واستمر هذا المكتب يعمل بنجاح بفضل سمعة الرجل وخبرته من عمله في المحاكم حتى سنة 1977. ومن الجدير بالذكر هنا أن الشيخ عبدالله النوري هو أحد مؤسسي جمعية المحامين الكويتية إلى جانب محمد مساعد الصالح، وعبدالعزيز الصرعاوي وحمد يوسف العيسى ومحمد النصرالله. وبصفته عضوًا مؤسسًا في الجمعية شارك ضمن وفد الكويت إلى اجتماعات مؤتمر المحامين العرب في القاهرة عام 1964. وفي يوم 17 يناير 1981، وكان يومًا ماطرًا بغزارة، ودع الشيخ عبدالله الدنيا، بعد أسبوعين من مكوثه في المستشفى الصدري، حيث دلت الفحوصات على إصابته بسرطان الكلى. وتم تشييعه بحضور حشد كبير يتقدمهم ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء آنذاك الشيخ سعد العبدالله السالم. ترك الراحل خلفه سيرة عطرة في خدمة الوطن والدين وتقديم العون لذوي الحاجة داخل الكويت وخارجها، تشهد على ذلك جولاته وأسفاره الخارجية الكثيرة، ولاسيما إلى الهند ودول جنوب شرق آسيا واستراليا، لتفقد أحوال فقراء المسلمين ودعمهم بمئات الآلاف من الدولارات من تبرعات المحسنين، أو تشييد المدارس والمراكز الثقافية لهم. كما ترك خلفه عددًا من الإصدار القيمة في الوعظ الديني والأدب والتاريخ والاجتماع والشعر مثل كتب: «أحاديث الرشد»، «المحمديات»، «المعجزة الخالدة»، «شهر في الحجاز»، «المنبر»، «ديوان من الكويت»، «خالدون في تاريخ الكويت»، «قصة التعليم في الكويت في نصف قرن»، «الأمثال الدارجة في الكويت»، «قطف الأزهار»، «أحاديث»، «من غريب ما سألوني»، «حكايات كويتية»، «مذكرات عن حياة الشيخ أحمد الجابر». أنجب الشيخ عبدالله النوري ثمانية من البنين وخمس من البنات، لعل أبرزهم هو المغفور له أنور عبدالله النوري (أبو مناور) الذي هو محور مقالنا هذا، بعد أن سلطنا الضوء على جده ووالده. ولد أنور النوري في فريج العاقول (سمي بهذا الاسم بسبب نمو نبات شوكي فيه، وكان الفريج وقت ولادته حيًا جديدًا تقطنه الأسر ميسورة الحال الهاربة من الأحياء القديمة المكتظة) بتاريخ 17 أغسطس 1940، ودرس في المدرسة الشرقية القديمة لمدة عام انتقل على إثرها إلى المدرسة الشرقية الجديدة التي كانت تضم كافة مراحل التعليم. بعد ذلك التحق بثانوية الشويخ التي تخرج منها في عام 1957 ليلتحق في فترة الإجازة الصيفية بمدرسة الملا محمد المسباح لدراسة القرآن الكريم، طبقًا للمنشور في موقع تاريخ الكويت. ابتعثته الدولة إلى بريطانيا لمواصلة دراسته الجامعية فتخرج في عام 1962 من جامعة ويلز متخصصًا في الكيمياء. وأثناء دراسته في بريطانيا استقلت الكويت فتشجع هو ونفر من مواطنيه الدارسين في الجامعات البريطانية لتأسيس نواة اتحاد طلابي لهم لإقامة الندوات واللقاءات والأنشطة التعريفية ببلدهم الصغير المستقل حديثًا. وفي هذه المرحلة من حياته أخبرنا النوري في مذكراته ــ طبقًا لما نشرته صحيفة الوطن الكويتية (3/8/2013)ــ أنه كان مولعًا بحزب البعث وعلى وشك الانضمام إليه بسبب توجهات الحزب القومية وشعاراته حول الوحدة والحرية والاشتراكية، ولكونه الحزب الأكثر تنظيمًا ومحاربة للمد الشيوعي في العراق ولطموحات عبدالكريم قاسم في الزعامة المطلقة. ولا يخفي النوري أنه وصل إلى حالة «الانضمام إلى إحدى حلقات الأنصار، وهي مرحلة تسبق العضوية ويطلق عليها لقب نصير، وكانت الحلقة لا يزيد عدد أفرادها على خمسة»، وأن أخبار الصراع بين البعثيين والشيوعيين في العراق كانت تطربه فيجد فيها اقترابًا من يوم الوحدة وإعادة أمجاد العرب. لكن هل انضم الرجل فعلًا إلى البعث؟. يجيب النوري بنفسه على هذا السؤال وينفيه لأنه اكتشف ما غيّر رأيه في الحزب، وذلك حينما اقترح على رابطة الطلبة العرب التي كانت تحت سيطرة البعثيين أن يصدروا بيانًا يستنكرون فيه إدعاءات عبدالكريم قاسم بالكويت ووقوفه ضد انضمامها للأمم المتحدة والجامعة العربية، لكنه فوجيء بمماطلة البعثيين وتمييعهم للمقترح، الأمر الذي دفعه إلى مصارحتهم بأنه لم يعد مهتمًا بنيل عضوية البعث. بعد عودته إلى الكويت عين مدرسًا للكيمياء بثانوية الشويخ، لكن هذا لم يدم سوى سنة واحدة، اختير على إثرها لشغل وظيفة الملحق الثقافي بسفارة الكويت في العاصمة البريطانية، وهي وظيفة شغلها حتى عام 1965 حينما استدعي ليكون وكيلًا مساعدًا لوزارة التربية لشؤون الثقافة، حيث ظل ممسكًا بهذا المنصب لمدة عام واحد فقط. في هذه الأثناء كانت الكويت على أبواب حدث كبير هو افتتاح جامعتها الوطنية، فلم يجد المسؤولون شخصًا أكفأ من النوري ليصير أول أمين عام للجامعة العتيدة، خصوصًا وأنه كان قريبًا من مراحل إنجاز المشروع وتطوره، فنجح الرجل في رحلة التأسيس الصعبة بكل ما تضمنته من مسؤوليات التنظيم الاداري والمالي وتأسيس الكوادر وتلبية احتياجات الحرم الجامعي. بقي النوري في منصبه هذا من عام 1966 لغاية عام 1978، حينما تم تعيينه رئيسًا لمجلس الإدارة وعضوًا منتدبًا في بنك الكويت الصناعي حتى عام 1986. في صيف عام 1986 كان النوري على موعد مع دخول الحكومة الكويتية لأول مرة، إذ تم اختياره كوزير للتربية في الحكومة التي شكلت بعد حل مجلس الأمة وتعليق العمل ببعض مواد الدستور. وقد ظل ممسكًا بحقيبة التربية حتى مايو عام 1990، أي قبل الغزو العراقي بأشهر معدودة، علمًا بأنه أضيفت إليه مهام حقيبة التعليم العالي بالوكالة في عام 1988. في الثاني من أغسطس 1990، حينما غزت القوات العراقية بلده، كان النوري في جنيف، فسارع مع الكويتيين المتواجدين هناك إلى صياغة بيان لرفعه إلى المقر الأوروبي للأمم المتحدة بالعاصمة السويسرية، تنديدًا بالاحتلال وتمسكًا بالشرعية، كما سارع للطيران إلى قبرص لترؤس اللجنة المسؤولة عن الكويتيين الذين تقطعت بهم السبل هناك. وفي الوقت نفسه ظل على اتصال دائم مع الحكومة الكويتية الشرعية في الطائف، كما شارك في مؤتمر جدة الشعبي وما تمخض عنه من نتائج مثل إرسال وفود شعبية إلى مختلف دول العالم. بعد تحرير الكويت، وتحديدًا ما بين عامي 1996 و 1997 شغل النوري منصب وزير الصحة في حكومة الشيخ سعد العبدالله السالم. على أن الرجل إلى جانب كل المناصب سالفة الذكر، كان أيضًا عضوًا في العديد من الهيئات الرسمية بحكم المنصب أو التخصص العلمي أو الاهتمام، مثل مجلس إدارة جامعة الكويت، والمجلس الأعلى للتخطيط، ولجنة سوق الأوراق المالية، مجلس أمناء جامعة الخليج العربي في البحرين، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، المجلس الأعلى للتعليم، اللجنة الوطنية لدعم التعليم، مجلس أمناء وقفية دعم التعليم، لجنة جوائز الدولة التقديرية، النادي العلمي الكويتي، جمعية الخريجين الكويتية، الجمعية الكويتية لحماية البيئة، الجمعية الكيميائية الكويتية، جمعية السلامة من حوادث الطرق، وغيرها. وبخروجه من الحكومة في عام 1997 تفرغ أبو مناور للعمل الحر، لكن دون انقطاع عن الاهتمام بالشأن العام أو الخيري من خلالة المؤسسة التي أنشأها وترأسها لمواصلة رسالة والده الراحل، وهي «مؤسسة الشيخ عبدالله النوري الخيرية» التي صنفتها مجلة «فوربس» في المركز الأول كويتيًا والخامس عربيًا ضمن الجمعيات الأكثر شفافية في أنشطتها. فمن بين الاعمال الحرة والمناصب غير الرسمية التي شغلها ما بين 1997 وتاريخ وفاته: رئيس شركة بيت الاستثمار المالي، رئيس مجلس إدارة مجموعة غلوبل الاستثمارية، نائب رئيس مجلس إدارة شركة المباني والتعمير، المدير الشريك في الشركة العربية لخدمات الكمبيوتر. في عام 2009 منحت جامعة الكويت شهادة الدكتوراه الفخرية لأبي مناور تقديرًا لإنجازاته واعترافًا بفضله على الجامعة منذ أن كانت مجرد فكرة وخارطة هندسية إلى أن أصبحت صرحًا علميًا ومعلمًا حضاريًا. والجدير بالذكر أن النوري وضع كتابًا بعنوان «في مرابع الذكرى» سرد فيه بالتفصيل حكاية بناء جامعة الكويت ومخاضات ولادتها والأزمات التي مرت بها حول الاختلاط، وحرية الأساتذة والطلبة، والمناهج المقررة، ومبنى كلية العلوم، وتشكيل اتحاد للطلبة وغيرها. في حديث خص به مجلة آفاق الصادرة عن جامعة الكويت (عدد 1117) وتمحور معظمه حول والده وما كان يتصف به من حلم وسعة صدر وتسامح على خلاف شيوخ هذا الزمن، تطرق أبو مناور باستفاضة إلى ظروف المجتمع الكويتي وأنماط الحياة فيه قديمًا فقال ما مفاده إن أهمية التطرق إلى ذلك تأتي من تبيان الطفرة الكبيرة التي حدثت للمجتمع الكويتي في فترة وجيزة، وكيف تقبل الناس المتغيرات المتسارعة وتكيفوا معها بمرونة لم تعد موجودة اليوم وحل مكانها التشدد. دعونا في السياق نفسه نقرأ شيئًا مما قاله. حول مهنة المحاماة التي مارسها والده قال ما معناه إن الأخير كان ينتصر دائمًا للمرأة لأنه كان يراها الطرف الأضعف «وهذا هو واقع الحال آنذاك، عندما كانت تعرض عليه قضية بين زوجين غالبًا ما كان يطلب من الرجل التنازل عن بعض حقه حلا للمشكلة». وكشف عن أن والده كان يقوم بعلاج النساء وغيرهن من خلال القراءة على ماء زعفران ممزوج بآيات قرآنية والذي كانت المريضات يشربنه ظنًا منهن أن ذلك يشفيهن، مضيفًا أن والده كان يقوم بذلك رغم رفضه للخرافات بسبب عدم وجود العلاجات الطبية الحديثة ثم لإدراكه «أن اعتقاد الانسان بالشفاء سبب رئيسي للشفاء». وفي مكان آخر حدثنا عن موقف يبرهن على انفتاح والده وسعة أفقه وتمسكه بالقاعدة التي تقول «أينما كانت مصلحة الناس فثمة شرع الله»، فقال ما مفاده إن جارة لهم عانت من ولادة متعسرة وكادت تموت فسارع والده للاتصال بالمستشفى الذي أوفد على عجل طبيبًا لإنقاذها، لكن أهلها رفضوا أن يكشف عليها طبيب ذكر متذرعين بأن ذلك حرام شرعًا فقال لهم الشيخ عبدالله النوري إنكم تقتلون ابنتكم فردوا عليه «هل ترضاها أنت وتتحمل وزرها» فأجابهم «نعم ضعوها في رقبتي وليحاسبني الله». وهكذا تم انقاذ المرأة من موت محتوم. ولم ينسَ المرحوم أنور النوري أن يؤكد في حديثه على أن «المجتمع كان، رغم تقليديته ومحافظته ورغم سطوة العادات والتقاليد، على استعداد لتقبل التغيير وتقبل الافكار الجديدة وهو ما أخذ في التراجع ــ للأسف ــ مع الزمن، لذلك لم يكن غريبًا أن يقيم أبي صداقات مع الاطباء الوافدين وكان بعضهم على الديانة المسيحية حتى أنهم كانوا يشاركوننا الإفطار في رمضان، رغم أنهم غير صائمين.. لقد فقدت الكويت هذا التسامح وقبولها للآخر وللاختلاف». وحول أسلوب والده في تربية أولاده أفاد قائلًا: «إن هذا الشيخ الواسع الأفق المتسامح القادر على التأقلم مع هذه المستجدات التي كانت تتسارع من حوله في المجتمع كان أبًا صارمًا حازمًا إلى حد كبير، ولكن لا أقول إنه كان قاسيًا. وعن صرامته وحزمه مع أبنائه قد لا يصدق البعض أنه عندما كان يأمرنا بفعل شيء معين كان يضربنا مقدمًا (بعصا المهفة القصير) قبل أداء ما يطلبه منا حتى لا نتقاعس عن القيام بما أمرنا به. نعم، كان يعاقب قبل وقوع الذنب حتى لا يقع»، مضيفًا أنه «كان يأمرنا بالصلاة ويتشدد في حضور صلاة الجمعة، فإذا حان وقت الغداء كان يغضب غضبًا شديدًا لو غاب أحد الابناء أو تأخر، ولم يكن هذا بسبب النظام الذي عودنا عليه فقط ولكن لأنه كان يرى في وضع مائدة الطعام أكثر من مرة ترفًا مكلفًا». وصفت صحيفة الوطن الكويتية (مصدر سابق) أنور النوري بأنه «صاحب رأي سديد ابتعد عن الشعارات المبهرة والمثيرة في حياته العملية، وإنْ عاش تحت ظلها في الخمسينيات والستينيات، لكنه آثر الهدوء والروية ونحا نحو العقلانية بعيدًا عن المهاترات والمعارك الكلامية. آمن بالحكمة التي تقاد بأهل الرأي والمثل الكويتي المعروف بأن (هناك لحى تحشمها وأخرى تحشم نفسك عنها)». كما أشارت الصحيفة نفسها إلى أن كل الذين من عرفوه أو تعاملوا معه عن كثب أجمعوا على أنه شخص يتمتع بالاحترام والثقة، وإنسان تستريح لمجالسته ومحادثته، وصاحب ميل للدعابة مثل ميله إلى حفظ الشعر وإلقائه في ساعات التجلي، ومثل ميله للقراءة واصطحاب الكتاب معه في أسفاره وجلساته، ورجل شكلت عائلته الجزء الاساسي في حياته واهتمامه، وأب لم يكن يهمه توزيع النصائح على أبنائه بقدر غرس قيم الصدق والثقة في نفوسهم.. يتسامح اذا لم يكونوا من الأوائل، لكنه لا يقبل الإهمال في واجباتهم التعليمية.
مشاركة :