الموت نهاية كل حي، واليقين الذي لا شك فيه، والحقيقة التي لا مفر منها، فيقول الحق تبارك وتعالى: «كل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام»، (سورة الرحمن الآية: 26 - 27)، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الموت والحياة ليبلونا ويختبرنا أينا أحسن عملاً، وأفضل طاعة وعبادة وامتثالاً لأمره، وتمسكاً بشريعته ومنهاجه، واتباعاً لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.في هذا اليوم نعيش مع الساعات واللحظات الأخيرة من حياة صحابي جليل عظيم القدر في الجاهلية والإسلام، هو عبدالله بن رواحه - رضي الله عنه - الملقب بشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي جاهد في سبيل إعلاء كلمة التوحيد حتى أتاه اليقين في موقعة مؤتة، ونال الشهادة في سبيل الله، فهنيئاً له الجنة، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.يقول ابن كثير في كتاب «البداية والنهاية»: «كان الصحابي الجليل عبدالله بن رواحة رضي الله عنه رجلاً صالحاً تقياً سباقاً للخير والفضل، موالياً أهل الإيمان، معادياً أهل الكفر، لا تأخذه في الله لومة لائم، مجاهداً في سبيل الله، حتى أكرمه الله بالشهادة يوم مؤتة».الخروج إلى مؤتةوروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: خطَب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبدالله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففتح له)، وقال: (ما يسرنا أنهم عندنا) أو قال: (وما يسرهم أنهم عندنا) وعيناه تذرفان.ولم يتأخر عبدالله بن رواحة عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم مؤتة شهيداً أميراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت أمنيته، رضي الله عنه، أن يموت شهيداً، فكتب الله له الشهادة في ذلك اليوم، وفتحت له الجنة مع الأنبياء والشهداء والصديقين. ويروي الدكتور سيد بن حسين العفاني في كتابه «أحوال الطيبين الصالحين عند الموت»، عن عروة بن الزبير قال: «لما تجهز الناس للخروج إلى مؤتة، قال المسلمون: صحبكم الله، ودفع عنكم. فلما ودع عبدالله بن رواحة مع من ودع بكى، فقيل له: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: والله ما بي حب الدنيا وصبابة، ولكن سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً) فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود، فقال لهم المسلمون: صحبكم الله ورفع عنكم، وردكم إلينا صالحين. فقال عبدالله بن رواحة: لكنني أسأل الرحمن مغفرةوضربة ذات قرع يقذف الزبداثم خرج القوم وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يشيعهم حتى إذا ودعهم وانصرف عنهم قال عبدالله بن رواحة:حلف السلام على امرئ ودعتهفي النخل غير مودع وكليلوأنشد شعراً يتمنى فيه الشهادة ولا شيء سواها، بضربة سيف أو طعنة رمح، تنقله إلى عالم الشهداء والظافرين.إيمان لا يتزعزعقال: «ثم مضوا حتى نزلوا أرض الشام، فبلغهم أن هرقل قد نزل من أرض البلقاء في مئة ألف من الروم، وانضمت إليه المستعربة من لخم، وجذام، وبلقين، وبهرا، وبلی، في مئة ألف، فأقاموا ليلتين ينظرون في أمرهم. وقالوا: نكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا. قال: فشجع عبدالله بن رواحة الناس. ثم قال: والله يا قوم إن الذي تكرهون للذي خرجتم له، تطلبون الشهادة، وما نقاتل العدو بعدة، ولا قوة، ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. قال: فقال الناس: قد - والله - صدق ابن رواحة فمضوا».وعن الحكم بن عبدالسلام: «إن جعفر بن أبي طالب حين قتل دعا الناس يا عبدالله بن رواحة، وهو في جانب العسكر ومعه ضلع جمل ينهشه، ولم يكن ذاق طعاماً قبل ذلك بثلاث. فرمى بالضلع ثم قال: وأنت مع الدنيا، ثم تقدم فقاتل فأصيبت إصبعه فارتجز فجعل يقول:هل أنتِ إلا إصبع دميتِ.. في سبيل الله ما لقيتِ.. يا نفس إلا تقتلي تموتيثم قال: يا نفس إلى أي شيء تتوقين؟ إلى فلانة؟ فهي طالق ثلاثاً. وإلى فلان وإلى فلان (غلمان له)، وإلى معجف (بستان له) فهو لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. يا نفس ما لك تكرهين الجنة.... أقسم بالله لتنزلنه... طائعة أو لتكرهنه... فطالما قد كنت مطمئنة.وانطلق يعصف بالروم عصفاً، حتى خر شهيداً وهوى جسده، وصعدت روحه إلى الرفيق الأعلى.
مشاركة :