عاش الكاتِب الفرنسيّ الكبير جان دورميسّون الذي رحل في الخامس من شهر ديسمبر 2017 طويلاً، حتّى أنّه أوشك أن يعمّر (92 عاماً). وعَرف المجد والشهرة، وارتبط بعلاقات وطيدة مع كِبار الشخصيّات السياسيّة والثقافيّة في بلاده، وفي العالَم. وتكريماً له وللأدوار التي اضطَّلع بها في المشهد الثقافيّ والفكريّ الفرنسيّ، لم تتردَّد «مكتبة البلياد» الشهيرة المختصّة في إصدار أعمال العظماء من فرنسا، ومن جميع أنحاء العالَم في نشر أربعة مجلّدات ضمّت أشهر رواياته. وهو تكريم لم يحظَ به سوى بعض الكتّاب والشعراء، وهُم على قَيد الحياة. حتّى عندما تقدَّمت به السنّ، ظلّ دائم الأناقة والبشاشة، مُقبلاً على ملذّات الحياة، حاضر البديهة، وخفيف الروح. مع ذلك كان مُدرِكاً أنّ الموت هو في النهاية مصير الإنسان، مهما عظم شأنه واتّسعت شهرته. لذلك كَتَب يقول في كِتابه «ماذا فعلتُ إذن؟»: «لقد وجدتُ الحياةَ جميلة جدّاً، وطويلة جدّاً، بحسب مذاقي وشهيّتي. وقد أسعفني الحظّ.. شكراً. وقد اقترفتُ أخطاءً، وكنتُ ضالّاً. أرجو المغفرة. فكّروا فيّ بين وقت وآخر. حَيّوا العالَم نيابةً عنّي عندما لن أكون بينكم. إنّها لآلةٌ طريفة لذرف الدموع هذه الحياة، وإراقة الدماء وجعل الإنسان يُصاب بالجنون من شدّة السعادة». وفي السنوات الأخيرة من حياته كان جان دورميسّون يحبّ أن يردِّد أبياتاً لشاعرٍ فرنسيّ كان من المُعاصرين لراسين، وفيها يقول: «اجعل يا إلهي ألّا يكون موتي سوى نومة ناعمة». وكان يقول أيضاً: «أفكّر قليلاً في الموت. وكان سبينوزا يقول إنّ الفلسفة هي تأمّل في الحياة، وليست تأمّلاً في الموت. لكنّ الموت هو في النهاية تتويجٌ لحياةٍ بأكملها. وهو جزء من الحياة. بل لعلّه الحياة نفسها. وهو ما جوهريّ فيها». وكان جان دورميسّون، أو «جان دو» كما يحبّ أن يسمّيه أصدقاؤه وعشّاقه، مفتوناً بكِبار الكتّاب الكلاسيكيّين أمثال راسين وشاتوبريان وستندال، وفلوبير وبروست وأناتول فرانس الذي كان أوّل كاتِب فرنسيّ تجرّأ على إدانة جرائم الثورة الفرنسية، من خلال روايته «الآلهة عطشى». لذا لم يتأثّر جان دورميسّون بالتقليعات الأدبية والفكرية التي شاعت في بلاده، وفي أوروبا خلال القرن العشرين. وكان يضيق بوجودية سارتر، ويَنفر من الفلسفات الغامِضة والمعقّدة، ويفرّ هارباً عندما يسمع خطاباً شيوعياً مطرّزاً بالشعارات الحمراء، ولا يستسيغ الثورات التي تفضي إلى العنف والتطرّف وقطع رؤوس أبنائها وصانعيها. وعندما بلغه أنّ الطلبة الثائرين في ربيع العام 1968 لطّخوا رأس الفيلسوف الكبير بول ريكور بالأوساخ، باعتباره «يمينيّاً قذراً»، استشاط غضباً وصرّح قائلاً: «إنّ ثورة الطَّلبة كرنفال استعراضيّ أبطاله أبناء البورجوازية، ومخرجوه تروتسكيّون يرقصون على أنغام موسيقى سورياليّة. وعندما علمتُ أنّ هؤلاء الطلبة أساؤوا إلى بول ريكور أدركتُ بحسب نبوءة ماركس أنّ تأتأة التاريخ تفضي في النهاية إلى كوميديا». ومن المؤكَّد أنّ الجذور العائلية كان لها نصيب كبير في بلْورة توجّهات جان دورميسّون على المستوى السياسي. فقد كان والده أندريه دورميسّون ديبلوماسيّاً ليبيراليّاً ومُدافعاً شرِساً عن المبادئ الديمقرطية. وقد سمح عمله لابنه بالتنقّل معه ليتعرّف إلى الحياة في ألمانيا في فترة صعود النازية، وعلى الحياة في رومانيا، وفي البرازيل. أمّا والدته، فقد كانت لها جذور أرستقراطية. وكان هو يقضي العطل في القصر الكبير الذي ورثته عن عائلتها. وفي سنوات شبابه، أي بعد تخرّجه من قسم الفلسفة في دار المعلّمين العليا، انجذَب جان دورميسّون إلى الجنرال ديغول، لأنّه يُجَسّدُ بحسب رأيه «الروح الفرنسيّة». وبعد حصوله على الشهرة في السبعينيّات من القرن الماضي، وتعيينه رئيساً لتحرير جريدة «لوفيغارو» المُحافِظة، ارتبط جان دورميسّون بعلاقات صداقة مع كلٍّ من الرئيس فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند. وبعد انتخابه رئيساً للجمهورية الفرنسية، استقبله الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، ومعه تحدَّث حول الشعر والشعراء. وكان جان دورميسّون يحبّ أن يقول إنّه لا يرغب في أن يكون مُناصراً لأيّ حزبٍ سياسيّ، إذ إنّ ما يعنيه ويهمّه، هو أن يكون مُراقِباً للحياة السياسية، متمتّعاً باستقلاليّته التامّة في الحُكم عليها. كما كان يحبّ أن يقول بأنّه «يكون يساريّاً مع اليمينيّين، ويمينيّاً مع اليساريّين». «مجد الإمبراطوريّة» تُدخله العائلة الأدبيّة الكبيرة في البداية لم يكُن جان دورميسّون المولود في باريس في العام 1925 يطمح أن يكون كاتِباً. وفي ما بعد كَتب يقول: «في فترة الشباب لم أكُن أفكّر في أن أكون كاتِباً. وكنتُ أعتقد أنّه ليس من المفيد أن نضيف أيّ شيء إلى ما كتبه سوفوكليس وفلوبير وبروست». ويضيف دورميسّون قائلاً إنّه أصدر روايته الأولى «الحب مُتعة» في العام 1956 بهدف لفت إعجاب فتيات كان يعشقهنّ. ولم تحصل تلك الرواية على الشهرة التي كان يحلم بها الناشر «جوليار»، والذي كان يطمح أن «يسرق» دورميسّون من فرانسواز ساغان الشهرةَ التي كانت تتمتّع بها في تلك الفترة، بفضل روايتها «صباح الخير أيّها الحزن». وكان على جان دورميسّون أن ينتظر مطلع السبعينيّات من القرن الفائت لكي ينضمّ إلى «العائلة الأدبيّة الكبيرة». وقد حدث ذلك بفضل روايته الضخمة «مجد الإمبراطوريّة» التي بدت وكأنّها تروي أحداثاً من التاريخ الإنساني، بطلها يُدعى ألكسيس، ابن هيلانة الشقراء التي وُلدت في غابات الشمال الشاسعة. وفي سنوات شبابه، صادَق ألكسيس فيلسوفاً مثلما كان حال أرسطو مع الإسكندر المقدوني، ثمّ أصبح إمبراطوراً يَحكم مَملَكةً مُترامية الأطراف. وكان عليه أن يخوض حروباً ضدّ البرابرة والهمج الذين كانوا يهدّدون أمن إمبراطوريّته واستقرارها. وفي النهاية، وبعدما أرهقته الحروب، تَرك ألكسيس العرش ليتعلّم كيف يموت في هدوء بعيداً عن الصخب والعنف. ويقول جان دورميسّون إنّ كلّ التأثيرات التي فعلت فيه في سنوات شبابه، برزت في روايته المذكورة. ففيها صدى لرواية الأرستقراطيّ الإيطالي غويسوبو توماسي دو لومبيدوزا «الفهد»، والتي رَسَم فيها صورة قاتمة لانهيار الطبقة الأرستقراطيّة في جزيرة صقلّية. وفيها صدىً أيضاً لروايات كُتّاب آخرين أمثال الفرنسيّ جوليان غراك، والإيطاليّ بوزاتي، صاحب رائعة «صحراء التتر»، والألمانيّ إرنست يونجر، وغيبون صاحب كِتاب «تاريخ أفول وسقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة». كما تحضر في رواية «مجد الإمبراطوريّة»، موسيقى ببروكوفييف، وأفلام الروسي أينشتاين. وقد خوَّلت هذه الرواية جان دورميسّون لأن يُنتخَب عضواً في الأكاديمية الفرنسية. ومنذ تلك الفترة، أصبحت الكتابة مصيره الذي لم يرد البتّة التخلّي عنه حتّى النهاية. وكان يقول: «الكتابة أمرٌ عسير. لكنْ ألّا نَكتب أمرٌ مستحيل. فكما لو أنّنا نتصوّر أنّنا سنكون أفضل لو لم يُقدّر علينا أن نقضي شؤوننا الخاصّة». ويضيف جان دورميسّون قائلاً: «لو كنتُ أتمتّع بالسعادة وبالكمال لما كتبتُ. وأنا أكتبُ، لأنّ هناك عطباً ما. لكن ما هو هذا العطب؟ لا أدري ما هو. أنا ألاحِق أُفقاً غامِضاً يتوجّب عليّ أن أدركه إلّا أنّه يتوارى دائماً وأبداً».وقد حَرص جان دورميسّون منذ دخوله الأكاديمية الفرنسية في العام 1973 على أن ينتصر للمرأة الكاتِبة أو الشاعرة، وخصوصاً لجهة دخولها رواق الأكاديمية الفرنسية. ولقد خاض غمار مَعارك بحالها لترجمة مثل هذا الهدف الجندريّ المقدَّر، دامت سنوات بحالها، انتهت بانتخاب الروائيّة والشاعرة الفرنسية مارغريت يورسنار عضواً في الأكاديمية المذكورة. كان ذلك في 6 (مارس) من العام 1980. ولقد نالت بهذا الانتخاب شرف امتياز أوّل امرأة تدخُل أكاديمية اللّغة الفرنسية.
مشاركة :