قال لي صاحبي وهو يحاورني: أرأيت إن أتى أحدٌ فادَّعى على الإسلام ما ليس فيه، كيف ترُدْ؟ فأجبته: إن كان فيما يدَّعيه نفعٌ ولا يتعارض مع ثوابت الإسلام وافقته؛ فقال (مضيِّقا عينيه): فإن ادَّعى على الثوابت نفسها؟ فقلت له بحسم: حاربته بكل ما أوتيت من قوة؛ فانتشى بظَفَرٍ - وقد ظن أنه تمكَّن مني - وتبسَّم حتى بان حشْو أضراسه وقال: فمالي أراك صامتاً وقد قام العلمانيون يريدون مساواة الإناث بالذكور في المواريث، وتزويج المسلمة بغير المسلم؟ فقلت له: أجيبك يا صاحبي، ولكن ارجع معي أولاً عدة سنوات إلى الخلف، وبالتحديد إلى نهاية التسعينات وبداية الألفية الثانية؛ في تلك الفترة تم عقد المؤتمر العالمي للسكان في القاهرة، وصاحب انعقاده لغط شديد في مخالفة ميثاقه للشريعة الإسلامية، ومناداته بالمساواة التامة بين الرجال والنساء، وحرية الشذوذ وما إلى ذلك؛ ثم قامت سوزان مبارك - كخطوة عملية لتفعيل ميثاق المؤتمر في مصر - فأنشأت وترأَّست المجلس القومي للمرأة، وجمعت فيه كل الرموز النسائية العلمانية، وظل الجميع - تقريباً - في المجتمع المصري - وخاصة الإسلاميين - يتوجسون خيفة مما سيفعله ذلك المجلس العلماني بالأسرة المسلمة؛ ولم يطل الوقت حتى بدأت أولى الضربات! تَبَنَّى المجلس حملة واسعة لاستحداث قانون الخُلع في مصر؛ فثارت ثائرة العامة، وكثير من الخاصة، للدفاع عن الإسلام والأسرة المسلمة؛ وتباينت ردود الفعل بين الغضب والسخرية، حتى إن النساء تندَّرْن في مجالسهن الخاصة بما سيفعلنه بأزواجهن، فإحداهن ستعطيه نفقة، والأخرى ستطلبه في بيت الطاعة، إلى آخره من فنون الاستهزاء التي يجيدها المصريون حق الإجادة! فكشَّرت سوزان مبارك عن أنيابها، واستدعت مواليها من رجال الدين سيئي السمعة، وكان على رأسهم وقتها مفتي الجمهورية، لإلصاق رأيها لصقاً بالإسلام؛ فتصدَّى لهم المخلصون من رجال الدين (حراس العقيدة)، واحتدمت بين الفريقين معركة حامية الوطيس؛ حتى إذا ما هدأ غبارها بعد فترة، اكتشف العامة، وكثير من الخاصة، والمخلصون من رجال الدين (حراس العقيدة)، أن الخُلع بالفعل من الإسلام، وأن له واقعة مثبتة عن النبيِّ نفسه، فأُقر الخُلع، وتقبله الجميع، وأمسى في أيامنا هذه من المسلَّمات! ولم تمض برهة حتى ضرب العلمانيون - ممثلين في المجلس اللعين - ضربتهم الثانية ضد أحد الثوابت التي كان المصريون يعتبرونها ركن الإسلام السادس، وفجَّروا حملة شرسة ضد ختان الإناث؛ فثارت ثائرة المسلمين في الريف والحضر، الجاهل منهم والمتعلم، الغني والفقير، الرجال والنساء، لإنقاذ بنات المسلمين من أتون الشهوة والشبق الجنسي الذي يريد أولئك المنحرفون الفجار إلقاءهن فيه. وكالعادة، أخرجت سوزان مبارك فقهاءها سيئي السمعة، فتصدى لهم المخلصون من رجال الدين (حراس العقيدة)، واحتدمت المعركة بين الفريقين فترة من الزمن، حتى إذا ما هدأت اكتشف الجميع أن ختان الإناث بالفعل ليس من الإسلام في شيء، وأنه لا يعدو كونه عادة فرعونية قبيحة، فنفر الناس من تلك البدعة السيئة وتابوا إلى ربهم وأنابوا! ففغر صاحبي فاه دهشة وقال: أتعني أن هناك من الثوابت ما ليس حقاً من الثوابت؟ وأن الفضل يرجع للعلمانيين في تصحيح فهمنا للإسلام؟ فقلت له باسِماً: أنا لا أعني أي شيء، وإنما أخبرك ببعض ما حدث، وأترك لك أنت التحليل والحكم. فقال غاضباً: ولكن أليس هذا دور المخلصين من رجال الدين (حراس العقيدة)؟ أليس منوطاً بهم الكشف عن تلك المخالفات والانحرافات بأنفسهم، قبل أن يكشفها كاره أو حاقد، فتكون مدعاة للتشكيك في الإسلام كله؟ ألا يُعَدُّ هذا تقصيراً منهم وإجراماً في حق الإسلام؟! فقلت له مهدئا: بلى، ولكن للإنصاف ليس كل المخلصين مقصِّرين، فهناك منهم من اجتهدوا في مواقف أخرى، وصوبوا بأنفسهم الانحرافات دون انتظار أعدائهم، فقال لي: مثل ماذا؟ فقلت له: مثلاً منذ أن وعيت على الدنيا والمصريون جميعهم يفخرون بأن جنودهم هم خير أجناد الأرض، وأنهم في رباط إلى يوم القيامة، وذلك بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الحديث رافداً أساسياً من روافد الحماسة والتعبئة والجهاد منذ أن اضطلعت مصر بدورها في مواجهة اليهود في حرب 48، وكانت لا تخلو مناسبة وطنية أو دينية، عامة أو خاصة، إلا ويتم الاستشهاد والافتخار بذلك الحديث. ثم حدث الانقلاب العسكري وتغير الوضع، ولم يعد الجيش محل إجماع كما كان من قبل؛ فمدَّ المخلصون من رجال الدين (حراس العقيدة) أيديهم الغاضبة داخل جعبتهم، وخرجوا بأن هذا الحديث ضعيف لا يصح الاستناد به، ثم حدث أن تورط الجيش بنفسه -وبشكل صريح- في المذابح وحرق المساجد، فمدُّوا أيديهم الدامية هذه المرة وخرجوا بأن هذا الحديث موضوع ولا أصل له؛ فصححوا لنا الانحراف وردُّونا إلى سواء السبيل، جزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء! فقال لي صاحبي - وقد بدا وجهه كمؤخرة القرد من الغضب-: أي عبث هذا؟ وأي جعبة تلك؟! إنها أشبه بـ"جراب الحاوي"! يمدون أيديهم فيها فيُخرجون ما يشاءون وما يناسب هواهم، إنهم بالموقفين الأولين مهملون مقصرون، ولكنهم بالموقف الأخير متلاعبون كبني إسرائيل، جعلوا الإسلام قراطيس، يخفون بعضها ويبدون بعضها حسب الهوى، هل يكون الحديث صحيحاً إذا رضوا عن الجيش، وضعيفاً إذا انقلب عليهم؟ فماذا لو تصالحوا مرة أخرى، أيُصحّحون الحديث بعد تضعيفه؟! فقلت له مشفقاً ناصحاً: هوِّن على نفسك يا صديقي وافعل مثلي تسلم؛ فتساءل ملهوفاً: وماذا تفعل؟ فأجبته: هادئٌ كما ترى، لا أجزع لهجوم العلمانيين والملاحدة على ثوابت الإسلام، ولا أتعجَّل بتخطيئهم والتصدي لهم، وإنما أرى فيه خيراً؛ دع المعركة تحتدم وانتظر؛ فإن كان الأمر حقاً من الثوابت فسيجد المخلصون من رجال الدين (حراس العقيدة) ألف برهان وبرهان بين أيديهم ليثبتوه، وإن كان غير ذلك وعجزوا عن إثباته، فهو بدعة أُرحنا منها وشر رُفِعَ عنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فقال لي صاحبي بحزن: أهؤلاء هم حراس العقيدة إذاً؟ والله إنهم لهُمُ المحنة في حقيقتها، وإني أرى الإسلام الآن بلا رجال، ويا له من دين لو أن له رجالاً! فقلت له بحزن أشد: بل الأنسب أن تقول: يا له من دين لولا هؤلاء الرجال! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :