يرجع مراقبون تعثر التجربة الديمقراطية الناشئة في تونس إلى غياب طبقة سياسية ديمقراطية تنهي حالة الأزمات الحزبية، مشيرين الى غياب اي معنى للديمقراطية في ظل أحزاب تتذمر كوادرها من استحواذ القيادات على صناعة القرار الحزبي الداخلي. ويرى المراقبون أن سياسيي تونس لم يتوصلوا بعد سبع سنوات من انتفاضة يناير إلى بناء طبقة ناضجة سياسيا وقوية ديمقراطيا نتيجة عقلية تسلط قيادات الأحزاب وانفرادها بصناعة قرار تسيير شؤونها الداخلية وبالمواقف المتعلقة بالشأن الوطني. وتظهر قراءات في المشهد السياسي أن غالبية الأحزاب غرقت في أزمات حادة قادت إما إلى انتفاضات داخلية أو انشقاق بسبب غياب الطابع الديمقراطي والانفراد بالرأي. وبدل أن تساهم الأحزاب في بناء طبقة سياسية ديمقراطية تستجيب لتطلعات التونسيين وتسند المسار الانتقالي، بدت أحد العوامل التي تقف وراء تعقيد العملية السياسية. ويقول المحلل السياسي محسن الذوادي ان "التعقيدات التي تواجهها التجربة الديمقراطية الناشئة ناجمة في جانب منها عن منطق السطو على مواقع صنع القرار داخل الأحزاب". ويضيف الذوادي لمراسل ميدل ايست أونلاين "إن الطبقة السياسية التي تروج لنفسها أمام التونسيين على أنها ديمقراطية لا تسير أحزابها بطريقة ديمقراطية ما أدى إلى أزمات حزبية داخلية بلغت حد الانشقاق، الأمر الذي أثر على أداء الحكومات المتعاقبة". ولم يتردد الذوادي في التشديد على أن "الطبقة السياسية وخلافا لما تقول لم تنضج بعد وهي طبقة غير ديمقراطية تتحكم فيها ثقافة الزعيم الواحد والقرار الواحد". شرعية القيادة في النداء اهتزت الطبقة السياسية، كما يذهب إلى ذلك محللون، حين انشق محسن مرزوق الأمين العام السابق لنداء تونس ليؤسس حزب مشروع تونس المناهض للإسلاميين. وفي اعقاب الانشقاق، غرق النداء في أزمة حادة على خلفية مشروعية قيادته حيث واجه مديره التنفيذي حافظ قائد السبسي موجة من الغضب بين قيادات الحزب التي رأت في توليه القيادة توريثا باعتبار أن النداء أسسه والده الرئيس الباجي قائد السبسي. وكانت قيادات النداء المتحالف مع النهضة تضغط باتجاه إفراز قيادة منتخبة ديمقراطيا غير أنه في ظل غياب مؤسسات تنظيمية حصل نوع من التسوية لفائدة حافظ السبسي. وعلى الرغم من الهدوء النسبي الذي يشهده الحزب الذي يقود الحكومة فإن عددا من القيادات تجاهر اليوم بأن حافظ "يقود الحزب بطريقة انفرادية غير ديمقراطية" فيما يقول هو إن "مؤسسات الحزب هي التي تتكفل بصناعة أي قرار أو موقف". ويشدد الأخصائي في العلوم السياسية مراد بن عبد الله على أن "مشكلة النداء لا يجب اختزالها في الحزب وإنما تشمل بقية الأحزاب الأخرى"، مضيفا "أشّرت أزمة النداء باعتباره القوة السياسية الأولى، الى غياب الممارسة الديمقراطية صلب الأحزاب". وينسجم موقف بن عبد الله مع مسارات الواقع السياسي، إذ يتعرض محسن مرزوق الذي انشق أصلا على خلفية تهميشه من مواقع القرار إلى انتقادات لاذعة من قيادات مشروع تونس إذ يتهمونه بإدارة المشروع بمنطق يخلو من القيادة الديمقراطية. ولم يتردد عدد من القيادات في الانسحاب من الحزب الذي يحاول وراثة المشروع الوطني الذي قادته دولة الاستقلال بزعامة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. وبرأي بن عبد الله فإن "مشكلة مشروع تونس تكمن في غياب مؤسسات تنظيمية قوية قادرة على ممارسة الضغط الإيجابي والحيلولة دون أي شكل من أشكال الهيمنة". وبالمقابل، ما انفك مرزوق يشدد على أن مشروع تونس هو حزب ديمقراطي مدني لا تصنع قراراته ومواقفه إلا من خلال عملية ديمقراطية تشارك فيها مكونات الحزب". ويقول الذوادي إن "مسألة الديمقراطية داخل الأحزاب مطروحة أيضا وربما بشكل أكثر حدة بالنسبة للأحزاب اليسارية بجميع فصائلها المسلحة بالإيديولوجيا". ويرى الذوادي أن "معضلة الزعامة هي التي حالت دون بناء قوة سياسية يسارية برامجية على الرغم من أن اليسار التونسي تأسس منذ أكثر من نصف قرن". وعلى امتداد السنوات السبع الماضية، بدت الأحزاب اليسارية وكأنها تقود سياسات على هامش العملية الديمقراطية التي يهيمن عليها تحالف هجين أجهض على صناعة سياسات وطنية برامجية تحظى بالإسناد السياسي والشعبي الكافي. الأكثر اهتزازا وبعيدا عن الأحزاب العلمانية تبدو حركة النهضة أكثر الأحزاب المهزوزة ديمقراطيا حيث يترأسها مؤسسها راشد الغنوشي منذ 1981 فارضا سطوته الروحية والسياسية على قيادات وكوادر وقواعد تطالب بـ"دمقرطة الحركة." ويقول عبد الفتاح مورو أحد أبرز مؤسسي النهضة "إن الغنوشي يدير النهضة كما لو أنه يدير شركة عائلية" فيما تطالب قيادات أخرى بتنحيه نهائيا من رئاسة الحركة. ويرى منير نويرة الأخصائي في الجماعات الإسلامية أن "من الصعب الحديث عن الديمقراطية بمعناها العلمي بالنسبة للنهضة" ملاحظا أنها "حركة تؤمن بما تقول الشورى في صناعة قراراتها ومواقفها بشأن أي مسألة من المسائل". ويضيف نويرة لمراسل ميدل ايست أونلاين "رغم وجود مؤسسات داخل التنظيم النهضوي مثل مجلس الشورى والمكتب السياسي إلا أن الكلمة الأخيرة تبقى للغنوشي". ويبدو أن مسألة الممارسة الديمقراطية تتجاوز القيادة والأحزاب لتلامس طبيعة الثقافة التي تتبناها الطبقة السياسية بيمينها ويسارها وهي ثقافة مهزوزة فكريا. تقول سناء المصمودي الأخصائية في علم الاجتماع السياسي "يجب أن نفسر غياب طبقة سياسية ديمقراطية في سياقاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية" ملاحظة أنه "داخل أي سياسي يوجد زعيم يرى في نفسه أنه الأجدر بقيادة الحزب والدولة". وتشدد المصمودي على أن "معضلة الزعامة غرسها الزعيم الحبيب بورقيبة في الثقافة السياسية حتى أنها باتت ثابتا من ثوابت النشاط السياسي للعديد من الأحزاب". غير أن بن عبد الله يرد قائلا "لئن كانت الزعامة غرسها بورقيبة في التونسيين فإنها اليوم تعكس شراهة قيادات الأحزاب السياسية إلى الحكم أو شراهتها في معارضة الحكومات المتعاقبة". منطق السطو ولا يتردد المحللون في التأكيد على أن غياب العملية الديمقراطية لدى الطبقة السياسية تسللت إلى الحكومة ومؤسسات الدولة المدنية التي ينص دستورها على الديمقراطية. ويلفت محسن الذوادي هنا إلى أن "الأزمة التي تشهدها حكومة يوسف الشاهد وما رافقها من انسحابات نتيجة هيمنة النداء والنهضة واستضعافهما لحزب آفاق تونس والحزب الجمهوري تؤكد أن ثقافة السطو على القرار السياسي والإداري تسللت إلى الدولة. وقادت انتفاضة الأحزاب على التحالف بالقوى العلمانية إلى بناء ائتلاف حزبي ما انفك هو الآخر يروج للديمقراطية غير أن المتابعين له يقولون إنه غرق هو الآخر في مستنقع الزعامة ولم يتوصل بعد إلى تركيز مؤسسات تكفل الممارسة الديمقراطية. ويشدد المراقبون على أن غالبية الأحزاب تشهد مفارقة تتناقض مع مفهوم الديمقراطية إذ في الوقت الذي يروج فيه خطابها السياسي إلى تبني السياسات الديمقراطية لا نعثر في الواقع إلا على زعامات متنفذة تحتكر القرار وتقيل كل من يعارضها أو ينافسها. ويرى الذوادي أن "معضلة التجربة الديمقراطية التونسية الناشئة تكمن في غياب طبقة سياسية تتبنى ثقافة سياسية ديمقراطية على غرار الديمقراطيات العريقة". ويشدد على أنه "ما لم تقم الطبقة السياسية بدمقرطة نفسها بنفسها وتنأى عن منطق الزعيم الواحد، فإن العملية السياسية تبقى مرشحة للمزيد من التعقيدات قد تقود إلى المساس بتجربة ديمقراطية ما زالت تتحسس مكامن هشاشتها.
مشاركة :