«أفكار حول فلسفة تاريخ البشرية» لهردر: الإنسان هو الأصل

  • 9/15/2013
  • 00:00
  • 16
  • 0
  • 0
news-picture

حين قال غوته يوماً عن زميله وصديقه المفكر الألماني هردر إن «أفكاره حول تاريخ البشرية هي بلا مراء اعظم ما أعطى، لكنه تبنّى في ما بعد موقفا سلبيا، فلم يكن في ذلك مما يدعو إلى السرور»، كان يعني بالتحديد ذلك الكتاب الذي كان، في رأي كثر، من أبرز ما كتب هردر، بل من أبرز كتب عصر التنوير الألماني، أي «أفكار حول فلسفة تاريخ البشرية». وكان هردر قد بدأ يخطّط لهذا الكتاب ويكتب فصوله، منذ عام 1789، وقد آلى على نفسه أن يجعله في أربعة أجزاء، غير أنه لم يكمله أبداً، إذ لم ينجز حتى عام 1791 سوى ثلاثة أجزاء شعر بعدها بالوهن، وراح يؤجل إنجازه عاماً بعد عام، حتى مات في عام 1803، وفي نفسه حسرة لأنه لم يتمكن أبداً من إنجازه. ومع هذا، إذ نقرأ الكتاب اليوم سيخيل إلينا أنه مكتمل تماماً، ولسنا ندري إذا كان في هذا مدح لهردر أو شجب له، لكننا نعرف أنه يحقق ما قاله عن هذا الكاتب والفيلسوف ومؤرخ الثقافة الألماني مفكر آخر هو جان - بول ريختر: «لم يكن هردر نجماً عظيم القامة، بل كان أشبه بثريا تتلألأ بألف نجم صغير. لم يورثنا عبقريته في عمل كامل، لكنه كان هو نفسه آية من آيات الألوهية». وما كتاب «أفكار حول فلسفة تاريخ البشرية سوى إشارة لذلك. حيث أن هردرد سعى فيه، بعد أن خاض الكتابة والتأمل طوال سنوات حياته السابقة، إلى إعادة كتابة تاريخ البشرية على طريقته التنويرية الخاصة، معطياً للإنسان مكان المحور في هذا التاريخ، وقد حرص في نهاية الأمر على ربط الإنسان ربطاً محكماً بخالقه. ومن هنا جاء الكتاب كما وصفه كثر: لوحة شاملة لتاريخ العالم، تفسّر العصور المختلفة تفسيراً عقلانياً باعتبارها تطوراً طبيعياً يسير نحو انبعاث بشرية خالصة غنية بالمعرفة والحب، قريبة بما فيه الكفاية من المثل الأعلى الذي طالما حلم به فلاسفة الخير الإنساني. وحسبنا للتيقن من هذا أن ندرك أن هردر، انطلق في كتابه من، ووصل في خاتمته إلى، سؤال كان لا يفتأ يشغل باله - وربما بال التنوير الألماني كله -: «متى سيحل أخيراً عصر التربية الكونية والمتبادلة بين الشعوب، من طريق القوانين والتعليم والدساتير السياسية؟». أجل كانت تلك هي الوحدة البشرية الكونية التي كان هردر يرى أنها الوحدة المثالية للإنسان المثالي، في ظل ألوهية مثالية، إذ نراه هنا يقول: «إن غاية الطبيعة البشرية هي النزعة الإنسانية نفسها»، بحيث أن «الله حين جعل للبشر هذه الغاية، إنما نراه قد وضع مصير هؤلاء البشر بين أيديهم، انطلاقاً من أسس العقل والعدل، جاعلاً في خلفية ذلك كله خيراً تشريعياً ترتبط به سعادتنا المثلى بمقدار ما نساهم فيه». > من الواضح أن هذه النظرة لم تكن جديدة، إذ أنها في جوهرها، كانت أساساً من أُسس عصر النهضة وفكره، بل إن في وسعنا أن نجد لها امتدادات في الفكر الإغريقي، لكن الملفت لدى هردر كان إعادة صوغها عبر ربطها، لا بمثال أعلى طوباوي مستقبلي، بل بتفسير واقعي عقلاني لتاريخ البشرية نفسه. ومن المؤكد أن هذه كانت غاية هردر الأساسية من وضعه كتابه هذا: أي أنه جعله على شكل توليفة معمقة تدرس التاريخ البشري انطلاقاً مما وصل إليه هذا التاريخ، وأكثر من هذا: انطلاقاً من الدور الذي لعبه الإنسان نفسه في صنع ذلك التاريخ، من دون كبير انتباه إلى مسألة الحتمية. ذلك أن الإنسان بالنسبة إلى هردر لم يكن وليس أبداً، ظاهرة بيولوجية عضوية حتى وإن تأثّر دائماً ببيئته الجغرافية والمناخية وما إلى ذلك. > في كتابه هذا، وعلى عكس ما كان يفعل مفكرون من أمثال فيكو، تعمّد هردر أن ينطلق من الظواهر الطبيعية الفيزيائية، ومن دراسة الأرض الجغرافية والجبال والبحار والمناخ وتكوّن النباتات وحياة الحيوان، متصاعداً حتى الوصول إلى البنى الأكثر تركيبية، وصولاً إلى الإنسان، الذي هو بالنسبة إلى هردر «ملخص حكاية الخلق كلها وغايتها». وهنا يتوقف هردر قليلاً ليقول لنا إن عملية الخلق انشطرت في لحظة ما، وتحديداً مع مجيء الإنسان، إلى عالمين: عالم المكان، حيث تطيع القوانين الطبيعية وحركة المواسم والمناخ إيقاعاً دائماً يؤمن مكان راحة لنمو الإنسان وحياته، وعالم آخر هو العالم الذي ينمو ويتطور في الزمان، فيكون مثله في تغيّر دائم، يتضمن ضروب تقدم وضروب تراجع وتكرارات قائمة حتى اللانهاية وتبدو في تبدلاتها وكأنها تسير من دون قانون أو غاية: وذلكم هو، بالنسبة إلى هردر ملكوت الإنسان الحقيقي. > وفي عالم الزمن هذا، ينطلق الإنسان وقد أُعطي حرية الحركة وزُوّد بغرائز شديدة التعقيد، وبمعرفة بالفن واللغة، بالنزعة الإنسانية والدين: باختصار ينطلق الإنسان مزوداً بإمكانات روحية كبيرة، ليشكل الحلقة الأخيرة من سلسلة حلقات الكائنات في الدنيا، ولكن ليشكل أيضاً وفي الوقت نفسه الحلقة الأولى في سلسلة عليا وأكثر سمواً بكثير. وهنا يصل هردر إلى فكرة أن كلاً من هذين العالمين إنما يولد من الآخر، حتى وإن كانت القوانين الطبيعية الفيزيائية هي التي تصنع الكون، بينما تتولى قوانين البشرية صناعة التاريخ... ذلك لأن الإنسان، في تعددية طبيعته «ليس سوى المختصر الجامع ونقطة الانطلاق لكل القوى العضوية في الكون، فهو إذ يتكون في البيئة الطبيعية، بفعل ضرورات المناخ والاحتياجات الحيوية وما إلى ذلك، كان يمكنه أن يبقى جزءاً من الطبيعة، ولكنه إذ يجد نفسه في موقع يجعل من المستحيل عليه الإفلات من حتمية وضعه الطبيعي هذا، كان من شأنه أن يفنى جيلاً بعد جيل، لولا الوحي الإلهي، ذلك التدخل الذي قام به الإله متواصلاً معه عبر رسله، فإذا بالإنسان يزوَّد - وهو شيء بين الأشياء - باللغة وبالدين وبالتراث... أي بمكوّنات إنسانيته الحقيقة. وفي هذا الصدد يكتب هردر: «إن الدين وحده هو ما يدخل في أوساط الشعوب أولى عناصر الحضارة والعلوم، التي لا تكون عند بداياتها سوى شكل من أشكال التراث الديني». وهذا التأكيد هو، هنا، ما يعطي هردر الفرصة لجولة تأملية في أديان آسيا القديمة، وفي حضارات أمم الماضي، مبرهناً لنا كيف أن التطور الإنساني سرعان ما يتخذ لنفسه بعد ذلك مسيرة مستقلة تصبح فيها «الإنسانية غاية الطبيعة البشرية» كما أسلفنا. > وهردر إذ ينطلق من هذا كله، يدخل بعد ذلك في تأمل معمَّق في تاريخ العديد من الحضارات، ومنها مثلا الحضارة الرومانية التي نراه يطلعنا على مسار صعودها ثم على أسباب انهيارها، مؤكداً أن من أهم هذه الأسباب، قصور الإنسان فيها عن إدراك أن عليه هو أن يكمل المسيرة التي فتح له الوحي أبوابها، فلم يفعل. > عاش يوهان غوتفريد هردر (1744 - 1803) الذي قال عنه نيتشه يوماً: «أهمية هردر تكمن في أنه وضع مؤلفات كانت على الدوام إما جديدة أكثر مما ينبغي، وإما عجوزاً بالنسبة إلى العقول الأكثر رهافة وقوة»، في خضم الزمن التنويري الألماني. وهو ولد في بروسيا الشرقية ودرس اللاهوت والفلسفة والطب، وتابع محاضرات كانط ثم جابهها ودارت بين الاثنين مساجلات. عُيّن قساً أول الأمر، لكنه سرعان ما وسّع دائرة اهتماماته لتشمل علوم اللغة والفولكلور والتاريخ والفلسفة، وهو ألّف في كل هذه المجالات، كتباً أثرت على كثر من بينهم غوته الذي ارتبط معه بصداقة قبل أن تحدث قطيعة بينهما. ومن أبرز مؤلفات هردر «دراسة في أصل اللغة» و «فلسفة جديدة للتاريخ من أجل تربية البشرية» و «أصوات الشعوب من خلال أغانيها» و «العقل والحكم» و «رسائل من أجل الارتقاء بالبشرية».   alariss@alhayat.com  

مشاركة :